ثقافةصحيفة البعث

“حبس الدم” تستعيد حلب الحياة بعد مفارقتها لأبجدياتها

صدر حديثاً عن دار دلمون الجديدة في دمشق رواية “حبس الدم” للدكتور نضال الصالح، وهي الرواية الثانية في مسيرة كاتبها الإبداعية والنقدية، تتناول ما كابدته حلب من قهر خلال سيطرة المسلحين على أحيائها الشرقية، وتستعيد عبر متنها الحكائي سيرة علّامة حلب خير الدين الأسدي الذي أحبّ حلب فأنكرته.

تضم الرواية شخصية مركزية، أستاذ جامعي، تتكفّل بإدارة مغامرة السرد، وأربع شخصيات: الأستاذ غسان الذي تنتهي الرواية بعدم معرفة مصيره بعد ذهابه إلى حي باب الأحمر ليطمئن على أمه التي رفضت مغادرة بيت الأسرة، ومن دون أن يكمل كتابة روايته عن شيخ الطرب صبري مدلل، ولعلّ أبرز ما يميزها تمردها على مواضعات السرد التقليدي، ومغامرتها على مستوى البناء، حيث يتداخل المحكيّ مع السيري مع تقنية الرسائل الإلكترونية مع أخبار الصحف والمؤلفات المعنية بتاريخ حلب.

ومن جواء الرواية:

“أأكتبُ لكِ، أم عنكِ! لي، أم عني! لنا، أم عن كلينا! يا حلب.

أنا الذي ينتظر الآن، في الممرّ بين غرفتين، أن يهدأ خوار القذائف التي تمطر الحيّ منذ ساعة وتزيد، أن يتوقّف جنون الرصاص الذي يثخن الموت بالموت.

انهضي إلى الحياة يا حلب، انهضي.

انهضي يا ابنة الحياة ومبدعتها طوال ما مضى من تاريخك التاريخ، انهضي كي يكون للحياة معنى، كي تستعيد الحياة حياتها، ولم يكن لها قبل أن تكوني حياة.

انهضي، فلا موت للموت إلا بكِ وأنت تصلّين للحياة، تقدّسين الحياة، وتنعمين بالحياة.. انهضي، كي تستعيد حاؤك الحياة وقد كانت فيما مضى من هذه الحرب حتفاً، وكي يستعيد لامُك اللحنَ وقد كان لحداً، وباؤك البرق وقد كان بكاء.

انهضي، فأنهضُ، وتبزغُ فيّ شمسُ الحياة”.

أأكتبُ لكِ، أم عنكِ! لي، أم عني! لنا، أم عن كلينا! يا حلب:

عن غسّان الذي ذهب إلى باب الأحمر ليطمئن على أمّه، ولم يعد، أمّه التي رفضت مغادرة البيت خشية من أن يعود أبو غسان من موته، فلا يراها بانتظاره!.

عن فاضل الذي مات قهراً قبل أن يموت حقيقة خلال العملية الجراحية التي أجريت له بسبب نزف دماغي حاد، ومن دون أن يكمل روايته عن الأسدي!.

عن وصال التي لم يثنها شيء عن نقل البندقية من كتف إلى آخر، من اليسار إلى اليمين، والتي لم تفِ بوعدها لي أنّ الموت وحده، ووحده، ما يمكن أن يفرّق أحدنا عن الآخر. وصال التي لم تكن تعرف طعماً للنوم قبل أن تقرأ رسالة مني على هاتفها الجوال، والتي كانت تستعيدني في كلّ لقاء قول الأسدي: “فيا نسيم الوصال! احملْ إليّ نفحة من ديار الحبيب، لأشمّ فيها رائحة قلبي”، وما كنتُ كتبت لها منقولاً من الأسديّ أيضاً بعد يوم طويل قضيناه معاً بين أبواب حلب، وحاراتها القديمة، قبل أن تنشب هذه الحرب مخالبها في لحم حلب: “إنّ رياض الجنّة، وظلال السدرة، ورحيق الكوثر، لا تعدلُ يقيناً موطئ أقدامك”.. وصال التي ترتع الآن بين أحضان ماما ميركل!.

عن تلك الذئاب من أعراق ودول مختلفة، التي تدفقت على حلب باسم الجهاد، وشهوة للحوريات التي وعدت بهنّ السماء لكل “شهيد”! عن أولئك الذين أرسلوا عشرات الأطنان من آلات القتل والدمار، والمال إثر المال، لننعم بالموت، والموت، والموت!.

عن أثرياء الحرب، وتجار الحرب، الذين لم يكن يعنيهم من أمر ما يكابد الناس من الفقر والحاجة والغلاء سوى المزيد والمزيد من المال؟ الناس الذين اختاروا البقاء في حلب، حيث ليس إلا النذر اليسير من الطعام، ولا ماء ولا كهرباء، فوجدوا أنفسهم أشبه بأولئك الذين ابتلعهم حبس الدم في القلعة التي تتداعى أسوارها تفجيراً بعد تفجير؟.

وحول روايته هذه تحدث د.نضال الصالح، فقال:

قبل نحو عشرين عاماً كانت تجربتي الأولى في كتابة الرواية، أعني روايتي “جمر الموتى” التي فازت بالجائزة الأولى في مسابقة الإبداع بين الشباب العربي، وصدرت عن دار سعاد الصباح في الكويت، ثمّ وجدت نفسي غارقاً حتى ذروة رأسي في الكتابة النقدية إلى ما قبل نحو شهرين من الآن، وتحت وطأة القهر الذي كابدت كما كابد الكثير من السوريين بسبب الحرب على سورية، إذ فقدت بيتي الذي تحوّل بفعل الإرهاب إلى حجارة ينوء بعضها تحت هشيم بعضها الآخر، وعانت مدينتي حلب لنحو أربع سنوات جحيم هذه الحرب، فكانت أشبه بحبس الدم المعروف في تاريخ قلعة حلب بمفارقته لأبجديات الحياة. واخترت مرجعاً حكائياً للرواية هو الشخصية الأبرز في تاريخ الثقافة في حلب في القرن العشرين، أي علّامة حلب خير الدين الأسدي الذي منح حلب ذوب عمره وماله، فأعدته إلى الحياة مع شخصية أخرى، شخصية أستاذ جامعي شاب، كانت دفنت إلى جانب حفرته بعد أن قضت برصاص الإرهاب في الأيام الأولى لاجتياح المسلحين حلب.

جمان بركات