دراساتصحيفة البعث

صفقة القرن والهدف الذي تسعى لتحقيقه

عبد الرحمن غنيم

كاتب وباحث من فلسطين

نسمع كثيراً في هذه الأيام عن ذلك الشيء الغامض الخفيّ الذي يُراد تمريره تحت عنوان “صفقة القرن”، ونسمع من حين إلى آخر عن مضمون هذه الصفقة، وإن كان هذا الذي نسمعه هو من قبيل التكهن، أو بمثابة تفسير لخطوات فعلية حاصلة. إن السؤال الأول الذي يجب أن نطرحه، وأن نجيب عليه بداية، ليكون بوسعنا إدراك ما يجري هو التالي: متى بدأ الحديث عن صفقة القرن؟.

نعتقد أنه ما من أحد يستطيع أن يدلّنا على وثيقة من أيّ مصدر كان تتضمن حديثاً عن صفقة القرن، ويكون تاريخها سابقاً لبدء مؤامرة الشرق الأوسط الجديد التي أطلق عليها زوراً تسمية “الربيع العربي”، بل إن أحداً لا يستطيع أن يأتينا بوثيقة يرد فيها تعبير صفقة القرن وتعود إلى زمن وجود أوباما رئيساً للولايات المتحدة. أي أن هذه الصفقة لم يجرِ الحديث عنها خلال السنوات الأولى لمؤامرة الربيع العربي والشرق الأوسط الجديد. فالأمر الواضح والأكيد أن الحديث عن هذه الصفقة جاءت به إدارة ترامب، وأن إدارة ترامب لم تأتِ به بشكل فوري ومباشر، وإنما بعد أن جربت حظها في متابعة المؤامرة. والدليل على هذا بسيط، ومن السهل العثور عليه، وهو أن الدعاية الانتخابية لترامب في مواجهة هيلاري كلينتون لم تتضمن الحديث عن صفقة القرن لا من قبله هو الجمهوري ولا من قبل منافسته هيلاري كلينتون الديمقراطية، وإنما جاء هذا الحديث من قبل ترامب لاحقاً.

ولكي نفهم الأمر على نحو منطقيّ، دعونا نسلّم بأن المؤامرة –ومهما كانت الأشكال التي اتخذتها– إنما كانت تدور حول هدف أساسي يتمثّل في تمكين إسرائيل من التوسع بين الفرات والنيل. وحين يكون هذا هو، فلا مجال للحديث عن صفقة القرن في سياق السياسات المتّبعة التي ترمي للوصول إلى هذا الهدف. فالصفقة في نهاية المطاف هي صفقة، وحين يكون الهدف هو تمكين إسرائيل من التوسّع بين الفرات والنيل، فإن أي صفقة يتمّ تبنيها مسبقاً، ستلعب دور المعرقل للهدف الذي يجري العمل من أجل تحقيقه، واستباق الوضع الذي يُراد خلقه أو إيجاده، وما فيه من تحكم طرف بالموقف.

كان هدف المؤامرة في البداية، وكما يعرف الجميع، وكما أعلنت أميركا بصراحة، يتمثّل في نشر الفوضى في المنطقة. ونشر الفوضى في المنطقة كان يستلزم أمرين: أولهما تقويض الأنظمة الشرعية سواء كانت هذه الأنظمة موالية للولايات المتحدة أو غير موالية. وثانيهما تمكين العصابات الإرهابية التي تحلّ محلّ الجيوش النظامية من تشكيل إمارات متعددة متصارعة ومتنافسة من جهة، وتسعى بواسطة الإرهاب إلى تهديد السلم والأمن الدوليين من جهة ثانية.

وعلى خلفية هذا الواقع الجديد الفوضوي الإرهابي المتعدّد الذي تصنعه الولايات المتحدة ومن ورائها “ائتلاف الثمانين” –إن بقي بهذا العدد– و”تحالف الستين”– إن بقي بهذا العدد أيضاً، سيأتي دور الكيان الصهيوني تحديداً لإنقاذ العالم من هذا الواقع الطارئ وتخليصه من الإرهاب ومخاطره وضرباته. وهذا الدور حدّده هنري كيسنجر في ذلك الحين، مطمئناً إلى نجاح المؤامرة الشيطانية، وذلك بكل صراحة ووضوح، حين قال بأن “إسرائيل” ستنفذ “البطشة الكبرى” حين تخرج لتضرب بكل ما تمتلكه من قوة وسلاح، ولتفرض سيطرتها المباشرة على معظم منطقة الشرق الأوسط. وهكذا سيكون بوسع إسرائيل أن ترسم على مزاجها خريطة الشرق الأوسط الجديد دون أن يشاركها في ذلك أحد.

لو حدث هذا، ونفّذت إسرائيل بطشتها الكبرى هذه، فإنه ليس مصير عرب فلسطين فقط، بل مصير كلّ عرب المنطقة التي احتلتها إسرائيل، والمناطق المجاورة لها، ستحدّده إسرائيل. ولن يكون هناك مجال للحديث عن شيء اسمه صفقة القرن، لا مع عرب فلسطين، ولا مع العرب الآخرين. فالصفقة تفترض التوفيق بين طرفين حتى ولو لم تكن عادلة، وليس إملاء إرادة طرف على الطرف أو الأطراف الأخرى من واقع السيطرة والتحكم. وهكذا نستطيع أن نستنتج بأن ولادة شعار صفقة القرن كانت نتاج الفشل في تنفيذ المخطط الشيطاني الأساسي وإيصاله إلى أهدافه، وما كان هذا الفشل ليحدث لولا صمود سورية وانتصارها على الإرهاب الذي استهدفها، ولولا الدور الذي لعبه محور المقاومة في مواجهة المؤامرة والمتآمرين.

حين تكون المسألة في حقيقتها الجوهرية على النحو الذي أسلفنا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: ما هي صفقة القرن التي يمكن أن يفكر بها الأمريكي تحت تأثير شيطانه الصهيوني لتجاوز مشكلة الإخفاق في تحقيق الهدف الأساسي؟.

ربما نظر البعض إلى إجراءات ترامب العدائية والعدوانية مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة والاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة للكيان الصهيوني، أو قرار الإدارة الأمريكية باعتبار الأراضي المحتلة في الجولان السوري المحتل جزءاً من الكيان الصهيوني، هي تصرفات من قبيل السعي لجعل إسرائيل لا تخرج من المولد بلا حمص. وهذا في حدّ ذاته صحيح، لكنه ليس لُبّ المشكلة كما تعبّر عنها صفقة القرن أو كما يُراد لها أن تعبّر عنها.

إن المشكلة تكمن عملياً في الحقيقة القائلة بأن الكيان الصهيوني، وفي ضوء وجود محور المقاومة، كان قد وصل إلى الاستنتاج القائل بأنه إذا لم يتمكّن من التوسع على حساب الأرض العربية بين النيل والفرات ومن تحقيق أهدافه في السيطرة والهيمنة على المنطقة، فإن مصير هذا الكيان في خطر. وبالتالي، فإن ما تريده صفقة القرن هو أن تزيل هذا الخطر.

كيف يمكن إزالة الخطر عن الكيان الصهيوني؟.

لنتذكر كيف أن المؤامرة على الوطن العربي استهدفت إزالة الأنظمة الشرعية أولاً وقبل كل شيء. وهذا هو السر وراء الشعار الذي روّجوه ووجدوا من يردّدونه بشكل ببغاويّ “الشعب يريد إسقاط النظام”، دون أن يفهموا بأن بديل النظام الذي يريدون هو الفوضى وليس نظاماً أفضل، وأن من وراء نشر الفوضى غاية، إذ أنه متى أزلت ما هو شرعي سهل عليك إزالة ما هو فوضوي، خاصة إذا كنت أنت من تتحكم بتسليحه وزوّدته بأجهزة الاتصالات الملازمة له والتي تستطيع من خلالها تحديد إحداثيات الأماكن التي يتنقل فيها بكل سهولة ويسر.

على كل حال، إن المشكلة بالنسبة للكيان الصهيوني هي أن بديله الشرعي الذي يصارعه على مصير الأرض ومن عليها إنما هو الشعب الفلسطيني في الوطن وفي الشتات. وحتى محور المقاومة لا يمكنه أن يوجّه فوهة بندقيته إلى الكيان الدخيل المصطنع ما لم يكن في ذلك نصيراً للحق الفلسطيني وللشرعية الفلسطينية. فإذا جرى تحييد الفلسطيني بطريقة أو بأخرى، وتمّ إقناعه بالتخلي عن وطنه، لم تعد هناك قضية مطروحة اسمها القضية الفلسطينية وتكون هي النقيض المباشر للكيان الصهيوني المصطنع على حساب شعب فلسطين.

إن ما تسعى إليه صفقة القرن إذن هو تحييد كل أنصار شعب فلسطين من خلال تحييد شعب فلسطين نفسه، ووضعه في ظرف يسلّم فيه بوجود الاحتلال، ويتنازل عن حقوقه الشرعية في وطنه لحساب الشرعية الصهيونية المصطنعة. ولا يمكن لهذه العملية الشاملة أن تتمّ إلا من خلال صفقة يتفق فيها الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي على طيّ قصة الصراع بينهما على الأرض.

إن مثل هذه الصفقة تتطلّب أول ما تتطلّب تقليص عدد الفلسطينيين إلى أقصى مدى ممكن، وذلك من خلال استيعابهم في جنسيات أخرى عربية وأجنبية يكون الشرط المعمول به فيها هو التنازل عن الهوية الفلسطينية وعن أية مطالبة بالحقوق في فلسطين لقاء الحصول على الجنسية الجديدة. وهذا ما يفسّر مبدئياً كون الورشة التي تناقش صفقة القرن لتشرع في تنفيذها هي ورشة عربية. فالالتزام بالصفقة بداية يُراد له أن يكون التزاماً ثلاثياً تساهم فيه ثلاثة أطراف هي الكيان الصهيوني ومن يدّعون تمثيل الشعب الفلسطيني وأكبر عدد ممكن من الأنظمة العربية. وهذا الترتيب لم يأتِ بالمصادفة، فأصحاب صفقة القرن يعرفون أنه متى جرى ترتيب الصفقة على هذا المستوى، فإن إسهام الدول التي استدرجت الفلسطينيين على الصعيد العالمي سيتمّ بشكل تلقائي: جنسية أجنبية مقابل التنازل عن الهوية وعن الحقوق في فلسطين. وهكذا فإن الصفقة التي تتبلور في المنامة تكون عملياً صفقة عالمية لا يشذّ من الدول عن الأخذ بها إلا القليل.

هنا نستطيع أن نلاحظ بشكل واضح وجود عملية استدراج. وعملية الاستدراج هذه بدأت عملياً منذ سنوات، أو لنقل إنها واكبت مؤامرة الربيع العربي. وعندئذ نستطيع أن نفهم بأن من استدرجوا أكبر عدد ممكن من اللاجئين الفلسطينيين في سورية ولبنان للهجرة إلى الغرب إنما عملوا في خدمة صفقة القرن. ولا يعني هذا أن الصفقة كانت واضحة ومتبناة أو مطروحة منذ البداية. فالتهجير سواء استهدف الفلسطيني أو غير الفلسطيني كانت غايته إراحة من يتهيأ لتنفيذ البطشة الكبرى من أكبر عدد ممكن من الناس حتى قبل أن يبطش بطشته، أو لنقل إنه تمّ في إطار المحاولة الرامية إلى تمكين إسرائيل من التوسع بين الفرات والنيل.

إن استغلال ما يمكن أن تعتبر إنجازات امبريالية صهيونية على هامش الخطة الشيطانية بالانتقال في الاستهداف من مرحلة إلى مرحلة أخرى، بحيث تحلُّ صفقة القرن محلّ ضربة القرن هو بالتأكيد أمر وارد في حسابات المتآمرين. فالقوى التي عملت على انتزاع الفلسطيني من بيئته في المخيمات وحمله على الهجرة باتجاه الغرب هي ذات القوى التي تحاول تمرير أو فرض صفقة القرن الآن. وهذه القوى تعتبر أن ما أنجزته خلال السنوات القليلة الماضية هو جزء من الصفقة التي تسعى لإكمال إنجازها الآن.