ثقافةصحيفة البعث

“شارة”…ثلاث ساعات من الارتجال مرت كثلاث دقائق

 

ثلاث ساعات من الأشغال المسرحية الشاقة، مرت كثلاث دقائق على جمهور العرض المسرحي “شارة” والذي هو عبارة عن مشروع تخرج طلاب السنة الرابعة في الأكاديمية السورية للفنون، قسم التمثيل، أشرف عليه وأخرجه المسرحي القدير فايز قزق، ذاهبا مع طلابه في تقديمه الحكاية على الخشبة، نحو واحد من أقصى حدود الاختبار العملي لما تعلموه، فهذا العرض هو أولا وقبل كل شيء، امتحانا نهائيا للطلاب الذين ستوضع لهم العلامات، بناء على ما قدموه في “شارة”، وما قدموه لم يكن رائعا فحسب، بل جاء وكأنه انتفاضة قوية القول والفعل للعالم المسرحي، في وجه الفنون البصرية المشابهة سواء كانت دراما تلفزيونية أو سينمائية.
“قزق” لم يذهب نحو نص مسرحي مكتوب سابقا، رغم أن الحكاية فيها ما فيها من التشابه مع العديد من الأعمال الفنية والأدبية، فهمه كان منصبا على كيف نقدم الحكاية، لا على الحكاية نفسها التي تحكي قصة عائلة اجتمعت بعد طول غياب وفراق، بسبب حادث مفاجئ “موت الأب”، الذي عاش وحيدا في منزله بعد أن ترك أبناءه بيت أبيهم، هربا من قسوته المفرطة، لتجتمع العائلة، الأبناء ال7 مع العم والعمة، والرجل وزوجته اللذان يعملان عند “أبو غسان” المسجى جثمانه في تابوت لم يغب للحظة عن عين الناظرين، وهو برمزيته العالية هنا، جاء وكأنه واحدا من أبطال العرض، لتبدأ عجلة القصة بالدوران على طريقة السرد خلفا، التي اختارها “قزق” كنوع من أنواع الحكاية.
“شارة” الذي تم وصفه بكونه مشروع ارتجال جماعي، جاء بحكاية بسيطة في ظاهرها، لكنها ارتكزت في تقديم مشهديتها، على العديد من المذاهب الفنية المهمة، كالواقعية، الرومانسية، السريالية، والرمزية وغيرها من المذاهب الفنية، بعد أن قام “قزق” بدمج كل من المدرستين المسرحيتين الأشهر في التاريخ، الستانيسلافسكية، والبريختية، برشاقة عالية، مستحضرا أهم ما في المدرستين آنفتا الذكر، سواء بالواقعية المفرطة، وكسر الإيهام لتقديم العرض، لأن فنانا مسرحيا من العيار الثقيل كما “قزق”، يُدرك تماما أن زمن العرض “3 ساعات”، سوف يكون مملا للحضور، مالم يعمل والطلاب، على جعله، آخر ما يفكر فيه الحضور، وذلك بتقسيم الحكاية إلى العديد من المشاهد المحكمة البناء القصصي، فكل مشهد تم بناؤه بإحكام وفق طريقة القص الأرسطي، بداية، ذروة، نهاية، عدا عن تضمين الحكاية نفسها لعدة حكايات أخرى، أغنت العمل بالعديد من المفارقات المتنوعة الأثر، كوميدية كانت أم تراجيدية، وهذا إبداع فني مسرحي خالد، قدمه الطلاب بإتقان وبراعة.
اختبر الطلاب بكل طاقتهم كل ما تعلموه في سنوات الدراسة، سواء في الحركة ورشاقتها، أو في التنويع الصوتي، وبالارتجال المُدرك والمحسوس للحكاية، لتأتي النتيجة كما أسلفنا، تصفيقا حارا ومديدا من الجمهور لصناع هذه الفرجة الشاقة والممتعة من طلاب المعهد بمختلف أقسامه، ما جعل من “شارة” واحدا من العروض المسرحية التي تدل وبقوة على ثبات هذا الفن العريق، في وجه فنون أخرى حدث بظهورها تراجعا مدويا للمسرح، وكأنه انتقاما إبداعيا من تلك الفنون، وما سببته من أذى وإهمال بحق المسرح.
اعتمد المخرج على مبدأ تقطيع العرض لمشاهد متلاحقة، يختبر فيها كل طالب مرتين، مرة وهو بين المجموعة، ومرة وهو وحيدا، لتبدأ الحكاية بالكشف عن نفسها رويدا رويدا، بالأداء الجيد والمتباين أحيانا في المستوى، على لسان الطلاب وحركاتهم، وذلك في مونولوج منوع، حسب الشخصية التي يقدمها كل طالب، مع الأب الميت، سواء كان عتابا صادقا أو تشفيا في وجه ديكتاتوريته مع أبنائه وأخيه وأخته، العمة التي نجت بنفسها من وحل عالم البزنس والمال والسطوة، وبقيت على طيبتها وألفتها، يلجأ إليها الأبناء في ألمهم وتداعيات حياتهم وشكواهم من العم الجشع، الذي يعمل على سرقة الثروة من الأبناء، الثروة التي تركها الرجل الميت، من بيوت فخمة، ومزارع ومصانع وشركات مختلفة، وهو يعمل لتنفيذ خطته الدنيئة بمساعدة غبية من الأخ الأكبر “غسان” الذي لعب دوره ببراعة منقطعة النظير، جعلته نجم العرض دون منازع، وذلك لبراعته في تغيير الحالة التي هو فيها بخفة وذكاء رغم الغباء الذي يسم شخصيته عموما، وهذه الشخصية “غسان” قدمها الطالب سليمان رزق.
مشاريع التخرج عموما هي واحدة من أهم الأعمال المسرحية التي ينتظرها الجمهور المسرحي بفارغ الصبر، و”شارة” هو واحد من أهم ما تم تقديمه في مشاريع التخرج، وسوف يبقى لأمد طويل يحمل هذه الصفة، لأنه ببساطة مشغول عليه بماء العين كما يقال، والطلاب الذين جاء وقت الحصاد بالنسبة لهم، جنوا خيرا وفيرا مما زرعوه في سني دراستهم، وهذا الحصاد لم يقتصر عليهم فقط، بل على الحضور الذين جنوا المتعة والفائدة مما شاهدوه وتحملوا مشقة زمنه الطويل بالنسبة لعرض مسرحي، ليخرجوا وعلامات الرضا والحبور مرسومة على محياهم، الذي بدا نضرا بعد تلك الجرعة المسرحية الدسمة إبداعيا وألقا.
تمّام علي بركات