الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

النداوة الوطنية..!

حسن حميد

بلى، ها هو قلبي يبتهج ويصفق لهذا الشباب العربي الجسور الذي يحمل العلم الفلسطيني إلى أعلى نقطة فوق القنصلية الإسرائيلية في مدينة باريس، فينتزع العلم الإسرائيلي من السارية ويرميه أرضاً، ويرفع في مكانه العلم الفلسطيني بألوانه الأربعة الشارقات! ثم يعلق (يافطة) طويلة عريضة تدعو إلى نصرة فلسطين وأهلها.

أي شباب جسور هذا الذي يضحي بكل شيء، ويطوي الخوف من كل شيء، ويعلو بعيداً عن كل شيء، من أجل أن يتوحّد والمعنى الذي يدور حوله شرفاء العرب منذ قرن وحتى هذه الساعة، أعني المعنى العروبي الذي لا يكتمل أو يتكامل إلا بعودة فلسطين إلى أهلها الأحقاء بها لأنها هي رهان على أننا عشنا الحياة بشرف!

شابان عربيان، أحدهما جزائري، وثانيهما تونسي.. يتسلقان الجدران العالية مثل الدوالي، ليعلو أحدهما الآخر في تشابك بالأيدي كيما يرفعا العلم الفلسطيني فوق القنصلية الإسرائيلية في عاصمة من عواصم الظلم والاحتلال هي باريس التي خرجت من أروقتها ودورها ومحافلها قرارات ظلم الشعوب، والبلدان، وقرارات محو هويات الآخرين وعاداتهم وتقاليدهم، وطيّ حضورهم، وإعاقة نشورهم، وتدمير روحهم الوطنية، ووأد لغاتهم القومية.

شابان عربيان، رضعا حليب المواطنة والقومية من صدور أمهاتهم، ومن المدارس، ومن الحياة، ومن المعاني التي ورّثها تاريخ الآباء والأجداد، ومن عبوس حالة اللامبالاة التي تدير الظهر لكل ما هو معافى ونبيل وسام!

شابان عربيان احتشدت ذاكرتهما بما فعله الفرنسيس بأرضهم وأهلهم وتاريخهم وهويتهم الوطنية في تونس والجزائر، ولذلك شبّا والجسارة الوطنية كتابهما كي يرسلا للعالم أجمع صورة النشور الحيّ للمعاني الحيّة تجاه قضية فلسطين التي ما زالت، وستبقى، حيّة جيلاً بعد جيل حتى يتجلى الحق وتشرق شمس الشهداء في كل بيت ونفس وكتاب.

شابان عربيان يضحيان بالإغراءات والإمالات كلها من أجل أن يرفرف علم فلسطين فوق القنصلية الإسرائيلية في مدينة باريس؛ لقد محا الاثنان مخاوفهما من السجن، والتحقيق، والإبعاد، والإهانات، وسحب الجنسية كيما تظل روح المقاومة شعلة أبدية متقدة في الحضور والمعنى.

أي رسالة، وأي صورة، وأي مشهدية ترسمانها أيها الوطنيان العاليان، وأي نشيد هذا الذي يحمل هواء باريس المنادي: فلسطين، فلسطين، وأي زهو هذا الذي يحتفي به الفضاء الباريسي، وأي مساء ندي هذا الذي صنعتماه، والعلم أبو الألوان الأربعة يكاد يفر من بين أيديكما مثل طير ليصير نجمة من نجوم السماء، وبرقاً جاذباً للأنظار والعقول، وأي بهجة تشيل بها الأرضُ الباحثةُ عن المعاني الخالدات وهي ترى علم المظلومين، أصحاب الكتب المترعة بالشهداء، والآهات، والرجاءات، والصبر الطويل.. يعلو ويعلو مثل النبل، مثل الكلام المضيء!

وأي صفعة توجهانها وأنتما من أبناء العشرينيات في السن، لثقافة الاستعلاء، والاستعمار، والظلموت، في عاصمة من العواصم التي ارتضت بالاستعلاء والاستعمار والظلموت أزمنةً طوالاً! وأي صفعة توجهانها لثقافة التطبيع والاستسلام والانحناء والإذلال أمام الدموي الصهيوني الذي راح فكره الأسود يتشقق كل يوم عن كريهة جديدة، وعن مجزرة لا تعريف لها سوى التوحش القبيح!

وأي هبوب لروح انتظرناها طويلاً.. هذه التي تمدانها نحو العالم الأصم الأحمق الذي لم يعِ حتى الساعة ما الذي يفعله الإسرائيليون بثقافة رسول المحبة سيدنا المسيح عليه السلام، وثقافة أحفاده حراس الحضارة والعمران والكتب والقيم السامية، وأي قولة حق تجهران بها في زمن الباطل والخنوع والارتماء في أحضان الهوان والوحل والرماد!

بلى، أيها الكبيران، تضيق اللغة وتتقاصر أمام هذا الحضور البهيج للروح الإنساني الذي يجسده العلم الفلسطيني، علم الحرية، المرفوع بأيديكما، أيدي المستقبل، أيدي النداوة الوطنية، وأيدي المفخرة..!

Hasanhamid55@yahoo.com