رأيصحيفة البعث

“الاتفاق النووي” كـ”فاضح” لعالم اليوم

لا يمكن لواقعة محدّدة أن تكشف صورة عالم اليوم مثل واقعة “القلق” الأوروبي والإدانة “الماكرونية” لما أعلنت عنه إيران بخصوص تقليص التزاماتها النووية الواردة في اتفاق (5+1)، ومصدر “الكشف” أن أوروبا “القلقة” لم تفعل – باعترافها – خلال أكثر من عام على انسحاب واشنطن الأحادي من الاتفاق ما يكفي لحمايته من الانهيار، كما أنها لم “تقلق” حين انتهكته إحدى دولها، أي بريطانيا، بعملية “القرصنة” العلنية لناقلة النفط الإيرانية في المياه الدولية استجابة لأوامر واشنطن وعقوباتها غير الشرعية.
والحال فإن واقعة الإدانة، وما رافقها من “قلق” و”دعوة للتراجع”، ثم الحديث عن خطوات مقابلة مقبلة – لم تستطع لأسباب “مفهومة” اتخاذ أقل منها ضد واشنطن المسبّب الرئيس لهذه المعضلة – تتجاوز القضية النووية ذاتها إلى أسئلة كثيرة عن طبيعة العلاقة غير المتكافئة بين الجنوب والشمال، بالمعنيين الجغرافي والسياسي، في ظل فلسفة سياسية واستراتيجية غربية قامت على حقيقة أن استمرار ازدهار الأخير يتطلّب استدامة إخضاع الأول في علاقة تبعية صريحة وقاسية، وبالتالي عدُّ أي محاولة لتصحيح هذه العلاقة، أو التخفيف من مساوئها، خروجاً على “النظام العام” و”القوانين الدولية” التي كُتبت في مرحلة الهيمنة الاستعمارية المباشرة، ثمّ عُدّلت لفظياً للتطابق مع مرحلة الاستعمار غير المباشر، بما يسمح لهذا الغرب الاستمرار في فرض هيمنته وسيطرته على باقي دول العالم، والاستحواذ على ثرواتها باعتبارها حقاً طبيعياً للرجل الأبيض، فيما ليس للرجل الأسود، أو الأسمر أو الأصفر، سوى حقين اثنين: مباركة نهب الثروات المستدام، والبقاء كقوة عمل مجانية لصالح المستعمر، وإذا حاول الخروج على هذه المعادلة، فإن “الاستنكار” و”الإدانة” هما مقدّمتان طبيعيتان لإعلانه خارجاً على القانون والشرعية الدولية تمهيداً لإخضاعه بالقوة حين تتوفّر الظروف المناسبة لذلك.
واستطراداً، يمكن في سياق التبعيّة الصريحة هذه فهم واقعة الصمت الأوروبي خصوصاً، والغربي عموماً، عن الجرائم التي ترتكب بحق الإثيوبيين اليهود “الفلاشا” في “إسرائيل”، قلعة الديمقراطية الوحيدة في هذا الشرق على ما يقول الغرب وأتباعه من كتّاب ووسائل إعلام عربية اللسان صهيونية القلب والقالب.
فإذا كانت انتفاضة “الفلاشا” تعرّي أولاً عنصرية “إسرائيل” حتى مع أبنائها – بنوك الدم “الإسرائيلية” لا تقبل دماءهم- إلا أن الصمت الأوروبي يؤكّد، ثانياً، التقسيم العنصري السالف الذكر، فلا مكان لـ”الأسود” في المستوطنة الغربية البيضاء المسماة “إسرائيل”، والمفارقة، المعبّرة هنا أيضاً، أن يهود إثيوبيا أنفسهم يحملون عنصرية فاقعة تجاه الشعب الفلسطيني..!!، وهذا يحتاج إلى “قول” آخر لتشريح أسبابه وتفنيدها.
إذاً سياق إدامة التبعية الصريحة هو ما يفسر ما يحدث الآن بعيداً عن مقولات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية العالم ودول المنطقة من “التهديدات الإيرانية” النووية وغيرها، فايران، كدولة “جنوبية” تحاول الانعتاق – طبعاً وفق الشروط الموضوعية المتاحة- تُستهدف لذاتها أولاً، ولأبعاد دولية أخرى ثانياً، وأهم هذه الأبعاد كونها حلقة هامة وأساسية في “طريق الحرير الجديد” الذي سيربط الصين بستين دولة بصورة مباشرة، وأكثر منها بصورة غير مباشرة، ليكون “طريقاً” لعولمة جديدة، وهو، أي المشروع الصيني، للمناسبة، مشروع “جنوبي” أيضاً، وبالتالي مرفوض بالنسبة لعالم الشمال.
خلاصة القول: نحن في عالم قائم على القوة، وقد بنى توازنه في مرحلة القطبين ما بعد الحرب العالمية الثانية على ساقين، أولهما، “إمكانية الإفناء المتبادل”، وثانيهما نهب الجنوب، ثم انتقل إلى مرحلة القطب الواحد القادر، وحده، على إفناء الآخرين، واستمر في نهب الجنوب، وما يحدث اليوم هو بداية تغيير في مواقع القوة داخل سلم العلاقات الدولية للنظام العالمي الجديد، لن تحمل لنا المنّ والسلوى، لأن الجنوب سيبقى في مكانة “المنهوب”، وإن ضمن شروط أفضل تتيحها حقيقة تعدد مراكز القوى الدولية وتصادمها، وهو ما سيمنح، من يعي ويعمل من بعض دول الجنوب مخرجاً ما ومكاناً، ولو صغيراً، تحت الشمس.
أحمد حسن