ثقافةصحيفة البعث

باب الخيـــــر يفتح من مكان آخر دائماً!

منذ أيام طلبت مني إحدى زميلاتي أن أقدّم لها خدمة صغيرة من خلال إيصال ورقة لزميلة لها في وزارة الإعلام، ولأن صديقتي تعاني وضعاً صحياً كان من الطبيعي أن ألبّي طلبها على الفور، ودائما فإن أكثر ما يزعجني في العمل وفي تنقلاته هو انتظار حافلة النّقل، والتي تشعرني وكأنني أنتظر معجزة إلهية، وإن كانت المعجزات الإلهية ممكنة الحدوث، إلا أن إيجاد مقعد مريح في حافلة النقل، وخاصة “باص النقل الداخلي” المؤدي إلى اتستراد المزة، فإنه معجزة غير ممكنة الحدوث.
لم أكن أنتظر بمفردي، فكثيرون كان يشعرون مثلي بالملل والتعب من هذا الانتظار، ولكن اثنين، امرأة عجوز ورجل عجوز أيضاً يقف إلى جانبها، كانا ينتظران بتعب وملل أكبر، وكانت العجوز تقول لزوجها: اتصل به مرة أخرى، أظنّه لم ينتبه إلى جوّاله. ويرد عليها زوجها بغضب: في الحالات النادرة التي زارنا بها، كان يقضي الوقت ينظر إلى جوّاله، فكيف لم ينتبه له الآن ونحن نتصل به كل نصف ساعة تقريباً؟. لكن المرأة كعادتها، ترغب دائما بالدفاع عن ابنها، حتّى لو كان على خطأ، وحتّى لو كان هذا الخطأ يمسّها بشكل مباشر، إلا أنها دائماً تعتبره الطفل الصغير الذي سيظل يخطئ، حتى لو أصبح رجلاً.
هكذا قضى العجوزان معظم الوقت في تبادل الكلام، حول حقيقة نسيان ابنهما لهما، أو انشغاله عنهما، أو حتّى عدم تذكّر أنه لديه والدين عجوزين. وأخيراً جاء الباص الموعود، وأنا ككل الركاب صعدت فورا إليه، وكان كعادته مختنقاً بالرّكاب الجالسين والواقفين على حد سواء، لكنّني انتبهت إلى شاب في الثلاثين من عمره يساعد الرجل العجوز ومن ثم المرأة في الصعود للحافلة، فقلت في نفسي: إذاً هذا هو الولد المشغول بجواله والناسي لوالديه.
دفع الشاب عن العجوزين أجرة الطريق، وبقي يحدثهما طوال الوقت، ومع كل كلمة كان العجوزان يدعوان له بالتوفيق، وهكذا وصل الباص إلى الإشارة قرب وزارة الإعلام، فنزلت، ونزل العجوزان أيضاً ونزل الشاب معهما.
ألقيت عليهما نظرة أخيرة، ودخلت إلى مبنى الوزارة، وهناك حيث احتسيت القهوة وأخذني الحديث مع زميلة صديقتي في الوزارة، أخذت مني الزيارة ما يقارب الثلاثة أرباع الساعة، خرجت بعدها وأنا أشعر بالراحة من انتهاء المهمة بنجاح، لكنّني شعرت بالدهشة حينما رأيت العجوزين يجلسان على الطريق، كان الرجل بيده جوال قديم، وينظر إليه بين الفينة والأخرى، أما زوجته فكانت تلتفت يمنة ويسرة وتنظر إلى الطريق.
لدقائق فكّرت، هل تركهما ولدهما وذهب، أم أنه انشغل عنهما مرّة ثانية، لماذا مازلا يجلسان هنا منذ تقريب الساعة، ثم اتخذت قراراً بالاقتراب منها.
حييّتهما وجلست إلى جانب المرأة العجوز، التي ابتسمت لي وتذكّرت أنني كنت إلى جانبهما في انتظار الباص، وما إن بدأت بالكلام حتى لاح لي الشاب الثلاثيني مرّة أخرى، فابتسمت لها وقلت: ظننت أنّ ولدكما ذهب أو انشغل عنكما، لذلك جئت اسأل ما حالكما، وإن كنتما بحاجة شيء.
ابتسمت العجوز ابتسامة حزينة ونظرت إلى زوجها الذي هزّ رأسه بخيبة لم أر مثلها في حياتي، والتفتت إلي: هذا ليس ولدنا، ولدنا لم يردّ على مكالماتنا؟
كانت نظراتي توحي بالدهشة، فسألتها ليس ولدكم، إذا هو قريب لكم؟
فرد العجوز: إنه غريب عنّا لكنّه حزن على حالنا وانتظارنا، وأبى إلّا أن ينتظر معنا ريثما يأتي ولدنا، الذي لن يأتي. وحينما أحسّ أن زوجته تريد أن تقول أي كلمة، نظر إليها وقال: لن يأتي، قلت لك أنّه لن يأتي، ثم نظر إلي وقال مبتسماً: لا تتفاجأي يا ابنتي، فباب الخير يغلق من مكان، ويفتح من مكان آخر. وتابع وهو ينظر إلى الشاب المتّجه نحوهما، مازلنا يا ابنتي نتّكئ الخير.
جاء الشاب وأخرج من كيس يحمله “سندويشات وعلب عصير”، وقدّمهما للعجوزين، وأنا حملت حقيبتي ومشيت ومازالت على وجهي علائم الدهشة التي لم أستطع إخفاءها.. قلت في قلبي وأنا أنظر لهما وللشاب نظرة أخيرة: فعلاً، لازلنا نتّكئ الخير.
مادلين جليس