ثقافةصحيفة البعث

تـــــلك البســــــــــاطةُ المقلقــــــة

 

 

“السّهل الممتنع” مصطلح مألوف، كثير الانتشار، يثير الرّيبة ببساطته المقلقة. وقد تكون رواياتُ الكاتب البرتغاليّ “أفونسو كروش” خيرَ مثالٍ على تجلّياته في مجال السّرد. تلك البساطة التي تُظهر لنا عمق الهُوّة بين روايات عصر الكلاسيك، كتابات “ستاندال، بِلزاك، تولستوي” وروايات عصر التّجريب والحداثة. هذا النّوع من الروايات شديدة الذّكاء كما يقول الأديب القاص”ناظم مهنا” قادر على جعل الجديّة الفلسفيّة بمنزلة أضحوكة ساخرة، بسرده الهازئ بالجديّة برمّتها، وبالعالم الوضعي وزيف قواعده وادعاءاته، وما يميّز هذا النّمط من الكتابة الجديدة أنّها تكسر القواعد والأساليب المتعارف عليها من خلال استنطاق الشّخصيّات المتخيّلة، للمتن السّردي ذاته ومحاكمته، أو محاورتها لأبطال روايات أخرى كتبت في زمن ومكان مختلفين، مع أنّها مجرّد كائنات لغويّة تنتمي إلى الفضاء الافتراضي وحسب. وقد نراها أحياناً تفرّ من بهوها الورقي، لتتجوّل في أزقّة الواقع ككائنات من لحم ودم، ثمّ لتعيد بنينة ذاتها وتوضّعها من جديد ضمن النّصّ بطرق فوق واقعيّة، أو أنّها تُفسح المجال لولوج القارئ إلى داخل النصّ بكامل فخامة المجاز ليبحرَ في فُلْك المتخيّل نحو أقاصي المجهول، فتغدو متعة الكتابة أشبه بمتاهة لا يُعرف خلالها السّارد من المسرود، ولا المتخيّل من الواقعي ضمن لعبة أدبيّة مسرحها الحياة الحلزونيّة المسار والتّطوّر، منظوراً إليها من ثقب وجودي في شال الكون.
تبدأ رواية “أفونسو كروش” بعنوان لافت، هو “هيا نشترِ شاعراً” الصّادرة في تونس ترجمة “عبد الجليل العربي” بهذا العنوان العريض البسيط: ( ثلاثون غراماً من السبانخ، ثمّ الجملة الأولى: “أكلتُ ثلاثين غراماً من السبانخ هذا اليوم، سعر الكيلو باثنين من اليورهات وثلاثين سنتاً) ثمّ لتغدو رواية بغاية العمق والطرافة وخفّة الدم، يصعب معرفة إن كانت موجّهة للصغار أم للكبار؟!. فكرتُها تقوم على “أنّ صبيّة عمرها ثلاث عشرة سنة، رغبت في أن يشتري لها والداها شاعراً من الحانوت، كما اعتاد الناس شراء قط، أو خروف، أو كلب، أو أرنب، ووجد الأب والأم أنّ الطلب معقول، فالشاعر لا يكلّف مالاً كثيراً، ولا يترك أوساخاً في المنزل مثل الرّسامين والنّحاتين، وهكذا تمّ شراء شاعر!. الرواية بسيطة اللغة والمحتوى والشكل، بخاتمة لا تخلو من التّفلسف، يقول فيها الكاتب: “الخيال ليس هروباً من القبح والرعب، ومن المظالم الاجتماعيّة، وإنّما هو بالضّبط تصميم لبناء بديل. الخيال والثقافة يبنيان كلّ ما نحن عليه، “الشخصيات قليلة، محورها الشاعر حتى وهو في قفص. تنتهي الرواية بعبارة مدهشة تختزن الكثير من الجدّ والهزل، تقول: “علينا ألا نترك الشعراء في الحدائق”.
أمّا روايته الأخرى فتحمل عنواناً آخر لافتاً، هو “الكتبُ التي التهمتْ والدي” طُبعتْ في تونس أيضاً، ترجمة “سعيد بن عبد الواحد” تنتمي إلى نفس المسار بطرحها البسيط الذي يعتمد أسلوب السهل الممتنع، يقول فيها الراوي وهو طفل في الثانية عشرة من عمره: (ما معنى التورية؟ أنا لم أعرف والدي قطّ. عندما ولدتُ لم يعد من أهل هذه الدنيا، يبدو أنّ العبارة تعتبر تورية، لكنّها ليست كذلك، إنّها الحقيقة الموضوعيّة وفق ما سترون دون أيّ تنميق بلاغي.. وذات مساء مثل عدّة مساءات أخرى، راح والدي يقرأ كتاباً وضعه تحت مطبوع خاص بالضريبة على الدخل. ولفرط انغماسه في القراءة وقوة تركيزه، ولج إلى داخل الكتاب، تاه في القراءة، وعندما حلّ رئيس المصلحة بمكتبه لم يكن موجوداً فيه، كانت هناك فوق الكتب مطبوعات خاصّة بالضريبة على الدخل ونسخة من جزيرة “مورو” مفتوحة عند الصّفحات الأخيرة وقد قام “جوليو” هذا هو اسم رئيس المصلحة بالمناداة عليه: فيفالدو، فيفالدو، لكن والدي لم يردّ بأيّ جواب، ذلك أنّ الأدب قد لبسه فصار يعيش تلك الرواية.. تقول جدّتي إنّ هذا يمكن أن يقع حين نركّز حقّاً على ما نقرأ). ويمضي السّارد الطفل منقّباً في الواقع عن شخصيّات الرواية المتخيّلة معتمداً الإشارات والرموز المبثوثة في حنايا السّرد كأسماء الأماكن والشخصيّات وغيرها، بتحفيزٍ من الجدّة وتطبيقاً لوصيّة والده الذي “مات على أثر أزمة احتقان موضعي” كما عرف فيما بعد، والوصيّة تقول: “أعطهِ المفتاح حين ترين أنّه أصبح قادراً على قراءة كتب عليّتي.. سلّمتني جدتي المفاتيح بكلّ وقار لأجدَ في تلك العليّة لاحقاً كلّ كتب والدي، بما فيها كتاب جزيرة الدكتور “مورو” وهو الكتاب الذي استعمله ليلج إلى عالم الأدب”، ومن خلال سرده الرّشيق يقدّم الكاتب آراء مهمّة في الأدب بمنتهى البساطة والجمال، قائلاً: (قراءة الأشياء يمكن أن تكون من عدّة طوابق..إنّ هناك قراءات سطحيّة، وقراءات أخرى أكثر عمقاً، هي القراءات الرمزيّة، ويكفي أن نعرف أنّ كتاباً جيّداً له بالضرورة أكثر من قشرة واحدة، وأنّه ولابدّ بناية من عدّة طوابق. لأنّ الطابق الأرضيّ لا يليق بالأدب، وهو مريح لمن لا يحبّ صعود الأدراج. أمّا في الأدب فلابدّ من وجود طوابق متراكمة، حروف من الأسفل وحروف من الأعلى”.
أوس أحمد أسعد