ثقافةصحيفة البعث

“3 حكايات”.. الكليشيه تتبختر على الخشبة

“3 حكايات” ممهورة بالوجع، بالقسوة والتدهور المريع للعلاقات الإنسانية فيما بينها، هو عنوان العرض المسرحي، الذي قام بإخراجه المسرحي العتيق “أيمن زيدان”، بعد أن قام بإعداده و”محمود الجعفوري”، عن قصة للكاتب “أوزوالدو دراكون”1929-1999، إنتاج مديرية المسارح والموسيقا.

“زيدان” اختار ومنذ البداية أن يقدم عرضه “التراجكوميدي” على الطريقة “البريختية”، متكئا على أهم فكرة تقوم عليها هذه الفرجة، ألا وهي تقنية “كسر الإيهام”، ليس بداية ببدء الممثلين بالتعريف عن أنفسهم، بأنهم أناس من الشارع المحلي، ركبوا الباص وجاؤوا ليحكوا أوجاعهم والتي هي أوجاع الناس عامة، وليس انتهاء بتوجيه الكلام للحضور أكثر من مرة، وتغيير بعض أغراض الديكور الرمزي أمام المشاهدين، وغيرها من الأشغال المسرحية التي تنحو المنحى ذاته، وهذا الإفراط في “كسر الإيهام”المقصود منه إبقاء المتفرج واعيا لما يشاهده، ومدركا لكونه يشاهد عرضا مسرحيا، فتصله الرسائل المتوخاة من العمل، وعليه أن يحاكمها بعقله لا بعاطفته.

يصل الباص الرمزي إلى محطته، ويهبط منه العديد من الركاب، الذين أكد العرض وعلى لسان ممثليه، وبما لا يدع مجالا للشك، بأنهم–أي ركاب الحافلة-عينة عشوائية من الناس الموجودين في الشارع يجري عليهم ما يجري على معظم البشر في هذا العالم الوحشي، لتبدأ الحكايات بالدوران، ما إن تنتهي الأولى حتى تبدأ الثانية وهكذا، مع المحافظة في كل حكاية على مفهوم القص الأرسطي، أيضا جاءت الحذاقة الإخراجية، في تضمين أكثر من قصة في القصة الأساس، بذكاء ومهارة.

كل حكاية تبدأ مع بداية حياة عائلية جديدة، رجل وامرأة أحبا بعضهما وتزوجا، إلا أن هذا الزواج بحاجة للاستمرار، خصوصا مع مجيء الأطفال، لذا يعمل الرجل في كل حكاية، على إفناء نفسه في سبيل أسرته التي ازدادت مصاريفها وهي لا تُحتمل، ما يضطر الرجال في الحكايات الثلاث للبحث عن عمل آخر، علهم يستطيعون من خلاله كفاية بيوتهم وأسرهم، وهكذا تدور عجلة الفرجة التراجيدية المطعمة ببؤس الكوميديا السوداء، وهي الصفة العامة التي يمكن أن تنسحب على العرض، خصوصا في الحكاية الثالثة، التهكمية حد الوجع، والتي تحمل عنوان “الرجل الذي صار كلبا”.

الرجل الذي يؤلمه ضرسه بشدة في الحكاية الأولى، لا يستطيع أن يتوقف عن الذهاب إلى العمل الذي انخرط فيه كبائع متجول، ولو ليوم واحد حتى، بسبب الألم الذي لا يطاق والذي يكاد يفتك به، وها هو الموظف في الحكاية الثانية، الذي وضعه الفاسدون في وجه المدفع بعد أن ضغطوا عليه لتمرير صفقة لحوم “جرذان”، تصيب سكان “جنوب أفريقيا” بالطاعون، ينتحر أو يُدفع للانتحار بعد أن قبض القليل، وحمل الجريمة وحده، القصة الثالثة التي تحدث في الأرجنتين–مع رمزية الأمكنة طبعا-، تبدأ أيضا من بداية مرحلة الزواج، فالرجل الذي ازدادت مصاريف بيته، تسير به قدماه والأقدار للبحث في العديد من الأماكن عن عمل، فلا يجد سوى عمل واحد في مصنع مات كلب حراسته، وحينها يعرض عليه رب العمل أن يقوم بمهام الكلب في العمل الذي كان يؤديه، وهو في محنة الحصول على لقمة العيش، فيوافق بلا تردد ودون أي اعتراض، ومع مرور الوقت، لا يجد منفذا للخلاص من الوقوف على أربعة قوائم، فتعاني زوجته من ذلك للحد الذي يسودها اعتقاد عندما تشعر أنها (حبلى) بأنها ستلد كلبا وهذه قمة المأساة التي يعيشها ذلك الرجل وزوجته معا، فالظروف الاقتصادية، لا تسمح برفاهية الراحة النفسية والجسدية والأخلاقية أيضا.

العرض قُدم ببراعة سواء في أداء الممثلين وخصوصا الممثل “مازن عباس” الذي قدم شغلا مسرحيا رفيعا، وفي الخط العام للعرض، الممسوك بإحكام بالسينوغرافيا الخاصة به، الإضاءة التي لعبت دورا مهما في تقديم هذه الفرجة، والموسيقا التي لم تسطو على العرض بل جاءت لتكون في خدمته، ويمكن القول أن ” 3 حكايا”، عرضا مسرحيا تاما، يحمل كل شروط العرض المسرحي الناجح، إلا أن عموم ما قاله العرض، جاء مكررا ومستهلكا جدا أو جاء بما يمكن تسميته بـ “الكليشيه”، فأغلب ما جاء فيه يعرفه جيدا الجمهور المحلي، إنه يحياه ويتنفسه، حياته اليومية سواء تلك الواقعية أو الافتراضية مكتظة فيه، وما ذهابه إلى المسرح، إلا للهروب منه، لكنه هذه المرة وجد ما ظن أنه يهرب عنه ولو لساعة من الزمن، يسبقه، ليصبح الفرق بين الواقع وما يجري على خشبة مسرح الحمراء، هو المكان والظرف فقط، أما ما تبقى، فلا فرق يُذكر فيه على ما يحياه الناس يوميا، حتى أنه يمكن وببساطة، اعتبار الجمهور “الجدار الرابع”، امتدادا طبيعيا للخشبة، والعكس صحيح.

يقول أحد الفلاسفة: “ما فائدة أن ترسم لي تفاحة، طالما الطبيعة تمنحني إياها وبوفرة”، وهذا السؤال يمكن توجيهه أيضا لصناع فرجة “3 حكايات”: لماذا على الجمهور أن يشاهد على خشبة المسرح، ما يعيش على إيقاعه منذ سنين طويلة وفي ظروف قاهرة كتلك التي تنتج عن الحروب؟ بالتأكيد سؤال كهذا لن يفوت مسرحيا عريقا مثل “أيمن زيدان”، لكنه سؤال يطرح نفسه وبقوة أيضا.

تمّام علي بركات