دراساتصحيفة البعث

خمســة دروس يمكــن اســــتخلاصها مـــن أزمـــة الخليج الــعــربي

إعداد: هيفاء علي

في تعليقه على حادثة إسقاط طائرة الاستطلاع الأمريكية من قبل الدفاعات الجوية الإيرانية عقب انتهاكها المجال الجوي الإيراني، اعتبر الصحفي الفرنسي المخضرم، ريتشارد لابيفيير، أن هناك خمسة دروس يمكن استخلاصها من أزمة الخليج العربي الراهنة، خاصةً وأن ترامب تراجع عن قرار توجيه ضربة لبعض المنشآت الإيرانية بعد عشر دقائق فقط من إصدار الأوامر، رغم أن مستشار الأمن القومي جون بولتون، ووزير الخارجية مايك بومبو كانا أقوى المؤيدين للرد العسكري، وكذلك مديرة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية جينا هاسبل. هذه الدروس لخصها الصحفي كما يلي:

بحرنة الحروب:

تحدث أزمة الخليج العربي في البحر بأبعادها الثلاثة وهي تحت الماء وعلى السطح وفي الجو. اليوم، كما في الماضي، فإن معظم التوترات الدولية ينتهي بها المطاف بالتدفق إلى البحار والمحيطات. ولكن من خلال ديناميات عولمة اليوم، وأكثر مما كانت عليه في الماضي تتبلور الأزمات في العديد من المواجهات البحرية. فمع سقوط جدار برلين (9 تشرين الثاني1989)، انتهت المنافسة بين كتلتين جغرافيتين ونظامين اقتصاديين، وانتهت معها الدبابات السوفيتية، التي ضمنت إلى حد ما الضمان الاجتماعي في الغرب.. بالمقابل بدأت تصعد قوة الصين لتحتل مكانتها على الكوكب بأسره مع العمل بمبدأ “أنتج أكثر بتكلفة أقل”، وباتت الآليات القديمة لرأس المال تواجه إثارة كوكبية جديدة تحت تأثير ثورتين: الأولى التمويل عبر الوطني، وفرض نظام جديد يتجاوز قانون العرض والطلب. والثانية، هي الثورة الرقمية التي تعمل على تحسين وفرض الرأسمالية الخوارزمية و”التعطيل” المعمم الموصوف على أنه “تقدم مفروض”.

وهكذا، فإن ما يسمى بـ “العولمة” يترجم تدريجياً إلى ثلاثة فواصل مذهلة: الدول القومية وسيادتها، الخدمات العامة وسياسات إعادة التوزيع الاجتماعي. إلى جانب هذه العواقب الاقتصادية والاجتماعية، تقودنا العولمة على نحو لا يرحم إلى حقبة جديدة من الأنثروبوسين، أي تاريخ الأرض الذي تميزت فيه الأنشطة البشرية بإحداث تأثير عالمي حاسم على العالم: النظام البيئي الأرضي: الاحترار العالمي، ذوبان الجليد البحري، الأعاصير، الانهيارات الأرضية والعواصف المتكررة الأخرى. وهذا لا يفتتح فقط المشكلات البيئية، بل يولد أيضاً أشكالاً مختلفة من الاحترار الاستراتيجي.

ومع “ثورة الحاويات”، تساهم حصة متزايدة من نقل البضائع في زيادة هائلة في حركة الشحن، كما زادت الناقلات من حمولتها إلى حد كبير ما أدى إلى ضعفها. اليوم، تتعرض كل حركة النقل البحري للتهديدات التي تكمن وراء توسعها: القرصنة والإرهاب واحتجاز الرهائن ومختلف أشكال الفساد وغسل الأموال المتعلقة بأعلام الملاءمة وشركات الواجهة.

هذه التطورات المختلفة تجعل الممرات البحرية أكثر حساسية، ولمواجهة ظهور هذه الأخطار التي لا تستثني أحداً، طبقت معظم القوى الكبرى والمتوسطة برامج “أقلمة البحر” وفقاً لعملية تحويله إلى “ترسانة” عسكرية.

في هذا السياق، فإن ترسانة المناطق البحرية هي عملية تجمع بين عدة ديناميات: العسكرة البحرية التي تؤكدها قوى جديدة (الصين، الهند، إلخ) والتي تتجاوز طموحاتها حماية الملاذ الوطني لتمتد إلى وجود على الممرات البحرية الكبيرة، مع الأخذ في الاعتبار العامل العسكري في تطوير مناطق بحرية جديدة (كاسحات الجليد الروسية لطريق البحر الشمالي، وتحديث القواعد الجوية البحرية في القطب الشمالي، تأثير التسلسل على القوات البحرية الناشئة الأخرى (فيتنام وتايلاند والفلبين وبنغلاديش وميانمار وغيرها) التي تشارك بشكل خاص في مجال القوات البحرية والصواريخ المضادة للسفن، عسكرة الساحل (إيران، بحر الصين الجنوبي، الهند (نيكوبار، أندامان، إلخ)، والبحث عن نقاط الدعم المدنية والتجارية القابلة للتحويل إلى قواعد جوية بحرية.

مضيق هرمز هو المحور الذي يربط الخليج العربي بخليج عمان. البلدان الحدودية هي إيران في الشمال وسلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة في الجنوب (شبه الجزيرة العربية). يبلغ طول المضيق – المدخل إلى الخليج العربي- 63 كم وعرضه 40 كم، وله أهمية استراتيجية حاسمة: فهو يشكل طريقاً تجارياً أساسياً لحركة المرور الدولية وتعتمد عليه 30٪ من التجارة العالمية من النفط. بالإضافة إلى الإمارات العربية المتحدة وإيران، يؤمن المضيق الوصول إلى الدول المنتجة للنفط الأخرى مثل السعودية والكويت وقطر والبحرين والعراق. ووفقاً لوزارة الطاقة الأمريكية، يمر حوالي 2400 ناقلة في كل عام، بحجم يبلغ حوالي 17 مليون برميل من النفط يومياً.

الحرب غير المتكافئة

أزمة الخليج العربي الراهنة هي حالة لا يستطيع أي من الخصوم فيها أن يخاطروا بإثارة “حرب تقليدية ثقيلة” مثل الغزو الأمريكي البريطاني للعراق في ربيع عام 2003. وترامب المنخرط في حملة لولاية ثانية، يعرف حق المعرفة أن الرأي العام الأمريكي لم يعد يريد أن تشرع الولايات المتحدة في هذا النوع من الحروب. قبله، قام أوباما بدمج هذه البيانات، حيث ضاعف العمليات السرية بقيادة مرتزقة أو مساعدين أو شركاء أجانب بدعم من “الضربات” (القصف الدقيق) والطائرات من دون طيار ووسائل جديدة في القتال.

هذا التحول الذي يعود إلى “ثورة الشؤون العسكرية” في الثمانينيات، يفضل التفوق التكنولوجي على المشاركة البشرية على أرض الواقع. كما أدت هذه التطورات إلى قيام باراك أوباما ودونالد ترامب بمضاعفة حدة الصراعات المنخفضة في مجالات الاهتمام الأمريكية ذات الأولوية من أجل الاستفادة القصوى من تفوقهما التكنولوجي. وهكذا في الخليج العربي، العملية عبارة عن “شن حرب دون القيام بذلك” من خلال إبقاء العمليات تحت عتبة “حرب مفتوحة” حقيقية، أي “حرب غير متكافئة”.

مفهوم “فن الحرب غير المتكافئة” الذي تم تحليله وتفصيله من قبل “صن تزو” في القرن الخامس قبل الميلاد في كتابه الشهير “فن الحرب”، تم تحديثه من قبل الجنرال الأمريكي “ويسلي كلارك” خلال تدخل الناتو في كوسوفو في ربيع 1999.

بشكل عام، الحرب غير المتكافئة هي حرب من الضعيف إلى القوي أو على العكس من القوي إلى الضعيف، الأمر لا يتعلق بغزو الأراضي، وإنما باستنزاف قوى الدولة الأخرى عبر الأدوات الداخلية والمرتزقة الأجانب. في حالة إيران، تعمل الإدارة الأمريكية على زعزعة الحكومة الإيرانية بكل الوسائل: الضغط السياسي والعقوبات الاقتصادية والإجراءات العسكرية حتى الانهيار لاستبدالها بنظام يتوافق مع المصالح الأمريكية.

وكاستراتيجية مدروسة، تهدف الحرب غير المتكافئة إلى إدراك نقاط الضعف لدى العدو من خلال السعي للتحايل على النقاط القوية، وبالتالي باستخدام الوسائل غير التقليدية أولاً وقبل كل شيء، وفي الحرب غير المتكافئة في الخليج العربي، تحتل الضربات المكثفة والمعلومات، والتواصل، إن لم يكن الدعاية، مكاناً بدائياً.

عمليات سرية وبروباغندا

في هذه المرحلة، لابد من التذكير بالتسلسل الترامبي فيما يتعلق بإيران: أولاً، تمزيق اتفاقية فيينا 14 تموز بشأن الملف النووي، ومن ثم تم تبني عقوبات أمريكية جديدة أحادية الجانب ضد إيران. في 19 أيار، 2017- يوم الانتخابات الرئاسية الإيرانية، التي شهدت انتخاب الإصلاحي حسن روحاني لولاية ثانية- يخاطب دونالد ترامب من الرياض حوالي خمسين دولة ويحرضها على “تطويق إيران”.

كان يتعين عليه امتلاك هذه الجرأة وانتقاد السعودية، واحدة من أكثر الديكتاتوريات اللاهوتية السياسية الفاشية على هذا الكوكب والتي مولت الإسلام الراديكالي لعقود طويلة. في هذا الصدد يوصي الكاتب باستخلاص قراءة تقرير حديث للأمم المتحدة عن اغتيال الصحفي “جمال خاشقجي” الذي تمت تصفيته في السفارة السعودية في اسطنبول بأمر مباشر من محمد بن سلمان.

وفي الوقت عينه، ضاعفت الاستخبارات الأمريكية الهجمات الإلكترونية والاغتيالات المستهدفة للعلماء الإيرانيين بمساعدة البرابرة الإسرائيليين. ومن خلال اعتماد عقوبات اقتصادية جديدة لمنع طهران من تصدير نفطها، تشجع واشنطن المظاهرات والإضرابات والحركات الاجتماعية الأخرى لإضعاف الحكومة الإيرانية من الداخل. لدى البنتاغون واحدة من حاملات الطائرات ومجموعتها الخاصة البحرية- الجوية في بحر عمان. في هذا الصدد، ووفقاً للمصادر العسكرية، فمن الواضح أن الهجوم الأخير الذي استهدف اثنتين من الناقلات العملاقة في مضيق هرمز لا يمكن القيام به إلا من قبل قوات خاصة من ذوي الخبرة. في وقت هذه الهجمات، تم تأكيد وجود غواصتين إسرائيليتين (من تصميم ألماني) في بحر العرب من قبل العديد من أجهزة الاستخبارات الأوروبية، وتضيف المصادر نفسها أن الهجوم على ناقلتي النفط قد نفذ باستخدام الطائرات المائية دون طيار و”المنصات المغمورة”.

تعدد الجهات الفاعلة

مما لا يثير الدهشة، أن السلطات في تل أبيب تتابع الأزمة وتطوراتها ببالغ الاهتمام، مع عدم إخفاء حكومة بنيامين نتنياهو استعدادها للقتال ضد إيران. في انسجام مع مستشار الأمن القومي جون بولتون، ووزير الخارجية مايك بومبو، ورئيس المخابرات المركزية الأمريكية جينا هاسبيل. وتسعى السلطات المدنية والعسكرية الإسرائيلية للانتقام لعدة سنوات، خاصةً بعد الاهانة والهزيمة النكراء التي ألحقتها المقاومة اللبنانية بقوات العدو الإسرائيلي خلال حرب “الثلاثين يوماً” في صيف عام 2006.

بغض النظر عن الزوج الأمريكي –الإسرائيلي، فإن أزمة الخليج العربي تحشد دول مجلس التعاون الخليجي ، وأبرزها السعودية والإمارات العربية المتحدة، على الرغم من أن الأخيرة لا تشترك دائماً في نفس الأهداف. إلى جانب هذا التقارب الثلاثي- النواب الأمريكيون /الأوروبيون، إسرائيل ودول الخليج، تسعى العديد من الدول الأوروبية بما فيها فرنسا إلى “بناء جسر وساطة لبدء عملية فاضلة للتراجع”، كما يقول دبلوماسي فرنسي، خبير في المنطقة.

تعدد الجهات الفاعلة لا يسهل الأمور بل يعزز الممارسات الترامبية للوكيل العقاري في سياق استبعدت فيه الأمم المتحدة والمنظمات المتعددة الأطراف الأخرى بشكل جذري بمبادرة من واشنطن.

مركزية القضية الفلسطينية

أكد إحد التصريحات الأخيرة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أن “مهاجمة إيران اليوم هو هجوم مباشر على الفلسطينيين ومطالبهم” . حيث انعقد مؤخراً اجتماع في البحرين للكشف عن “صفقة القرن”، الخطة الأمريكية المزعومة للتسوية السلمية الشاملة للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني التي أعدها جاريد كوشنر (صهر ترامب) وأصدقاؤه النواب، ومعظم اليهود الأرثوذكس!.

ومهما يكن الأمر، سوف تضطر المستشاريات العربية والغربية إلى مواجهة ما هو واضح، إذ تشير أزمة الخليج العربي هذه التي تضاف إلى الكارثة المعلنة لقمة البحرين، إلى تراجع الإمبراطورية الأمريكية. ومن الآن فصاعداً، من الواضح أن الولايات المتحدة لا تستطيع التوسط في القضية الإسرائيلية الفلسطينية! والآن، لم تعد واشنطن قادرة على التظاهر بفرض وجهات نظرها، لا على الفلسطينيين ولا في سياق الأزمات الإقليمية الأخرى: سورية، اليمن والقرن الإفريقي.