رأيصحيفة البعث

الرقص مع الإرهاب

 

مع عجزها عن بناء أي سياسة واقعية وثابتة، وناجحة، تجاه سورية طوال السنوات الماضية، تبدو الولايات المتحدة الأمريكية اليوم وكأنها تعود إلى نقطة الصفر: لا خبرة جرت الاستفادة منها، ولا درس تمّ استيعابه في العمق. وإن كان ذلك قد عكس على الدوام، وفي جانب كبير منه، حدة الصراعات الدائرة بين كل من البيت الأبيض ووزارة الخارجية والبنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية في مقاربة الوضع (التزام درجات متعدّدة ومتباينة من العدائية والعدوانية) في الحرب المعلنة على سورية منذ آذار 2011، فإنه كان يكشف، في الوقت نفسه، وباستمرار، عن أكوام هائلة من الأخطاء والتخبّطات والتناقضات والارتكابات التي ارتقت، في أحيان كثيرة، إلى مستوى اقتراف جرائم الحرب.
تركت واشنطن للسذاجة السياسية أن تجرفها في موجاتها المتتالية عندما انطلقت من أن الدولة السورية ستسقط في بضعة أسابيع.. أطلقت العنان لحماقاتها عبر سباق لاهث ومضن مع الوهم، قبل أن تسقط في فخ المطالبين بتقويض النظام السياسي. أدارت غرف “الموك و”الموم” في الأردن وتركيا، ودرّبت “المسلحين المعتدلين” قبل أن يقرّر هؤلاء، في نهاية المطاف، العودة للالتحاق، بعتادهم وسلاحهم، بالمجموعات التكفيرية. ضغطت على منظمة حظر الكيماوي واخترقت خبراءها وتدخّلت في إعداد التقارير الكاذبة والمزيّفة حول استخدام الكيماوي، قبل أن تستخدم ذلك ذريعة، في نيسان 2018، و”تحت ضغط الشركاء” لشن عدوان صاروخي “فاشل!” على سورية استهدف البنى التحتية والمدنيين. رعت المجموعات الانفصالية في الشمال الشرقي، وفرضت حصاراً اقتصادياً على الشعب السوري تجاوز، في تطبيقاته البرية والبحرية، حتى البنود المعلنة منه.
اليوم، وفي أجواء التقارير التي تتحدّث عن التوصل لاتفاق حول اللجنة الدستورية العتيدة، تسعى إدارة ترامب إلى إخراج “جبهة النصرة” من قائمة التنظيمات المدرجة على لائحة الإرهاب الدولي، على أمل جعلها طرفاً في التسوية الموعودة، بمعنى العودة للانضواء بها تحت مسمى “المعارضة المعتدلة” الشهيرة التي صدعت الرؤوس طوال سنوات الأمل بكسب الحرب، وفي تلازم مع الجهود التركية والقطرية “الأزلية” لتعويمها والانتقال بموقعها من منظمة إرهابية تكفيرية مرتبطة بتنظيم “القاعدة” إلى تنظيم سياسي معترف بشرعيته.
كانت الخارجية الأمريكية قد أدرجت “النصرة” ضمن لائحتها للمنظمات الإرهابية العالمية، بعد أسابيع من إعلان تشكيل التنظيم التكفيري، أواخر العام 2011، وسط التخمينات والرهانات والأحلام الرائجة، في ذلك الوقت، حول “دنو ساعة النظام السوري”، وها هي اليوم تنحو منحى معاكساً من خلال العمل على إعادة تسويق “النصرة” كفصيل سياسي “سوري” محلي يمكن التعاون معه، مباشرة أو عبر الوسيطين التركي والقطري، لطرح أجندة سياسية “تحررية أطلسية” على طاولة المتحاورين. وبالطبع، يجد المحافظون الجدد الأمريكيون – الذين عادوا مؤخراً، وبقوة، إلى الكثير من مفاصل القرار في البيت الأبيض ومكتب الأمن القومي – أن الحاجة تتجدد، في هذه المرحلة، لتنظيم إرهابي يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق أهدافهم، أولاً في إطالة أمد الحرب، وثانياً في مد رأس جسر للتعاون مع أردوغان حيال إرهابيي “ما يسمى “وحدات الحماية” في الشمال السوري.
أردوغان، من جهته، يخطط لدمج مسلحي التنظيم التكفيري ضمن ما يسمى “الجيش الوطني”، وهو يرتب لقاءات بين ممثلين عن “التحالف الأمريكي” و”النصرة” للاتفاق على التحضيرات الخاصة بهذا الدمج ضمن مشروعه لإقامة “المنطقة الآمنة” التي لاتزال تدغدغ أحلامه ومخيلته. ولكن أردوغان – بدوره – دوّن روايات مطولة في سجل الرقص مع الإرهاب واللعب بالتنظيمات الإرهابية، وهو، من “داعش” إلى “النصرة” إلى “هيئة تحرير الشام” إلى “الجبهة الشامية” إلى “جيش الإسلام” – حاله حال واشنطن في المحصلة الأخيرة – تعامل مع الإرهابيين باعتبارهم احتياطياً سرعان ما يمكن الاستغناء عنه والتضحية به عند اللزوم.
بالفعل فإن البعض لم يستخلص أي حقيقة ولم يستوعب أي درس وهو لايزال يراهن على ورقة الإرهاب والاستثمار بها في نوع من الدوران العبثي حول الذات والعودة للانطلاق من نقطة الصفر رغم أن الإرهاب بات ورقة بائسة أسقطها الجيش العربي السوري من أيدي الجميع.. ولا عزاء لمن لا يستوعبون الدرس.
بسام هاشم