الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

بالمجّـــــــان

د. نضال الصالح
ربّما ما مِن أمّة تشبه العرب في منح صفات وألقاب ليست جديرة بالموصوف، ما دامت لا تكلّف الواصف شيئاً سوى اللغو الذي يعني في معاجم اللغة كلّ ما لا يُعتدّ به من الكلام، ومن أمثلة ذلك: علّامة، وبحّاثة، وفهّامة، وشاعر، وروائي، وقاصّ، وناقد، وباحث، وفنّان، وإعلاميّ، و.. وربّما ما من أمّة تشبه العرب أيضاً يصدّق الموصوف فيها ما يلحقه آخر به من الوصف إذا كانت الصفة ممّا سبقت الإشارة إليه، وسواه.
في الأمم والمجتمعات المتقدّمة حضارياً لا مكان للإنشاء، أو لما هو من سقْط القول، أو ما هو صفة مجّانية يمكن أن تشير إلى أيّ شيء سوى الموصوف بها، ومن علامات ذلك أنّ المرء لا يعثر في مؤلفات هذه الأمم والمجتمعات على صفات لا صلة لموصوفيها أو موصوفاتها، بها، ولا سيما المؤلفات الخاصة بالإبداع ونقده، وسواهما من حقول المعرفة. ومن قرائنه أيضاً أنّ قواعد اللغات لدى تلك الأمم والمجتمعات لا تعرف لفظاً مفرداً لأيّ من صيغ المبالغة لاسم الفاعل كما تعرف العربية، بل تسبق اسم الفاعل بصفة دالّة على المبالغة.
والمشكلة ليست في اللغو الذي لا يتردد كثيرون في ارتكاب آثامه، بل في عدم تقدير آثاره ونتائجه، ليس في الواقع وحده، وليس في الموصوف بصفة ليست فيه ومنه، وفي تصديقه أنّ الصفة لائقة به، فحسب، بل، أيضاً، في إلحاق بعضهم صفات بأنفسهم ليس بينهم وبينها أدنى درجة نسب.
في المدوّنات العربية القديمة أنّ أعرابياً يُقال له عويج بن عُمير النهشليّ كان دائم التلصص على أخبية النساء في قبيلته، ويسرق كلّ ما تبلغه يداه من ثيابهن التي كنّ يعلّقنها على حبال أمام الخباء لتجفّ بعد غسيلها، وعندما ضاقت القبيلة به، واجتمعت لتتخذ قراراً بخلعه منها، قال أحد حكمائها: “لو أننا أمّرناه على القبيلة، فيستحي”، فاستعاد حكيم آخر ما كان الأصمعيّ روى من حكاية دالّة على أنّ الذئب ذئب حتى لو نشأ بين غابة من الحملان، وأنّ البغاث بغاث حتى لو استنسر، وأنّ العبد عبدٌ حتى لو تسيّد، وبعد حوار طويل انتهت القبيلة إلى الإجماع على رأي الحكيم، فسُمّي عويج سيّداً، وما هي أيّام، وذات ليلة حالكة السواد، حتى سمعت القبيلة صوت امرأة تستغيث أيّ عابر طريق لينقذها من مجهول دخل خباءها، ولم يكد الرجال الذين هبوا لنجدتها يدخلون إلى الخباء، حتى وجدوا شخصاً لم يكونوا رأوه من قبل، وهو يتكئ على جنبه كما يفعل السادة، ولم يكد أحدهم يمعن النظر فيه، حتى عرفه، عويج نفسه بعد أن حفّ شاربيه وأمعن في تهذيب لحيته حتى لم يعد يظهر منها سوى شوكها، وعندما سأله لماذا فعل ذلك بنفسه، أجابه، وهو يلحن في كلامه، أنّ الصفة يجب أن تطابق الموصوف في الحركة والتعريف و.. ولم يدعه الرجل يكمل، بل سارع إلى القول: “في الحقيقة يا عويج، في الحقيقة لا المجاز”. وبعد، فكلّ شيء يمكن أن يكون بالمجّان سوى الصفة التي لا يليق بالموصوف، سواها.