دراساتصحيفة البعث

جنوب أوروبا ينهض مرة أخرى

 

عناية ناصر

انتهت تلك الأيام التي كانت تلعب فيها اسبانيا دوراً بسيطاً في الاتحاد الأوروبي، فمدريد تمتلك فرصة كبيرة للإسهام في تشكيل سياسات الاتحاد الأوروبي على مدار السنوات الخمس المقبلة، خاصةً أن إيطاليا وبولندا، ناهيك عن المملكة المتحدة، التي خرجت بسبب البريكست، ضعيفة، كما فقدت هولندا حماسها من أجل اتحاد أكثر قوة، بينما يبحث التحالف الفرنسي الألماني عن شركاء جدد للدفاع، وعن تعاون أوثق في الدفاع والهجرة ومستقبل اليورو.
لقد أصبح رئيس وزراء إسبانيا، بيدرو سانشيز، الزعيم الفعلي للديمقراطية الاشتراكية الأوروبية، وثاني أكبر قوة سياسية في كل من المجلس الأوروبي والبرلمان، وتشير جميع الدلائل إلى أن سانشيز تعلم من أخطاء أسلافه وأنه مصمم على وضع بصمته في المشروع الأوروبي.
لسنوات عديدة، قللت إسبانيا من وزنها في بروكسل، وهذه الديناميكية بدأت في الثمانينيات عندما أدخل رئيس الوزراء آنذاك فيليبي غونزاليس إسبانيا إلى النادي الأوروبي من خلال الموافقة على أن مدريد ستفتح سوق إسبانيا أمام الشركات الكبيرة لجيرانها الشماليين في مقابل خطة تعوض الخاسرين في هذه العملية. لقد كانت بداية الصندوق الهيكلي والترابط في الاتحاد الأوروبي إنجازاً كبيراً، ولكنها كانت لعنة أيضاً.
بدأت إسبانيا في القيام بشيء ما فهمه آخرون منذ فترة طويلة: إنها تبني شبكتها الخاصة في العاصمة الأوروبية. وبمجرد تأمين تمويل الاتحاد الأوروبي للبنية التحتية الضرورية- إذ لم يكن لدى إسبانيا أي طرق سريعة – وحماية المناطق الريفية، ركز السياسيون الإسبان أجندتهم الخارجية على أماكن أخرى.
أصبحت إسبانيا لاعباً فاعلاً في شؤون الاتحاد الأوروبي. كان موقفها المؤيد لأوروبا يعني أنه سيكون دائماً في صالح المزيد من التكامل، لكن أهدافها كانت مقتصرة على متابعة المسار الذي حددته برلين وباريس. انعكس هذا الدور السلبي عليها بكلفة كبيرة، ففي خضم أزمة الديون وما أعقبها، فقدت إسبانيا نفوذها، بينما بدأت دول أخرى- إيطاليا وبولندا، وكذلك الدول الأعضاء الصغيرة مثل فنلندا وأيرلندا والبرتغال- تحتل مساحة أكبر. والمثير للدهشة أن إسبانيا فقدت مكانتها الدائمة في المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي.
لقد تعلمت إسبانيا بطريقة صعبة بعدما جعلها الضعف الداخلي ضعيفة على المستوى الأوروبي. ووجدت أن هذا طريق ذو اتجاهين. إذا كنت ضعيفاً في بروكسل، فستعاني الوحدة الوطنية أيضاً من ذلك، والحركة الانفصالية الكاتالونية هي مثال على ذلك. يبدو أن سانشيز يدرك أكثر من أي زعيم إسباني آخر قبله، تداعيات هذه الديناميكية- بفضل فهمه لكيفية عمل الاتحاد الأوروبي- ولديه خطة لكسر الحلقة المفرغة. وينعكس اهتمامه بالقارة في فريقه الأوروبي: فوزيرة الاقتصاد، نادية كالفينو، كانت مديرة عامة في المفوضية الأوروبية. وكان وزير الشؤون الخارجية، جوزيف بوريل، رئيساً للبرلمان الأوروبي، وكان لويس بلاناس، وزير الزراعة، الممثل الدائم لإسبانيا في بروكسل. كما أن كبار المسؤولين الآخرين هم من المؤيدين لأوروبا بقوة، وهم يفهمون طريقة عمل آلة الاتحاد الأوروبي.
لا شك أن الاشتراكيين الإسبان ليسوا في موقف سهل على الصعيد المحلي: إنهم يواجهون احتمال أن يكون لديهم حكومة أقلية، ولن تتلاشى القضية المزعجة المتمثلة في دفع كاتالونيا من أجل الانفصال في أي وقت قريب. يواجه سانشيز أيضاً انتقادات شديدة للتوصل إلى اتفاقات مع اليسار الراديكالي والأحزاب المستقلة لتمرير بعض القوانين والميزانية. ومع ذلك، فإن ما سيمنح رئيس الوزراء قوة على الساحة الأوروبية، هو إجماع قوي مؤيد لأوروبا بين الإسبان، فقد تعرض حزب “يوروسكبتيك” في البلاد، لهزيمة كبيرة في الانتخابات الأوروبية الأخيرة بدعم 6.2 في المائة فقط – أقل بكثير من زعيم اليمين المتطرف ماتيو سالفييني 34 في المائة الذي تلقاه في إيطاليا أو 30 في المائة من رئيس حزب بريكست نايجل فاراج.
يبدو أن المد ينعكس في إسبانيا إذ تم تصميم الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية على حد سواء لتعزيز نفوذ البلاد في الاتحاد الأوروبي، خاصة الآن، حيث من المحتمل أن تصبح البلاد مساهماً كبيراً في المشروع.
في الواقع، بدأت إسبانيا تفعل شيئاً اكتشفه الآخرون منذ فترة طويلة: إنها تبني شبكتها الخاصة في العاصمة الأوروبية. يجتمع المسؤولون الإسبان في المؤسسات الآن بشكل منتظم لتبادل وتنسيق مواقفهم. لقد بدأوا أيضاً في التشاور بشكل منهجي مع نظرائهم في الحكومة الإسبانية، وأعضاء البرلمان الأوروبي، والشركات الإسبانية متعددة الجنسيات.
وأخيراً، تتعلم مدريد كيف تلعب لعبة الاتحاد الأوروبي عندما يتعلق الأمر بالضغط، على الرغم من حقيقة أن الكلمة تحمل دلالات سلبية قوية في إسبانيا. هذا مهم بشكل خاص الآن، حيث تبدو مدريد مستعدة لتصبح مساهماً كبيراً في ميزانية الاتحاد الأوروبي.
تشير جميع الدلائل إلى أن إسبانيا لن تقوم فقط بتشكيل سياسة الكتلة، مع تعيينات في مناصب رئيسية لصنع القرار في الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضاً بتحديد المسار عندما يتعلق الأمر بالسياسة أيضاً.
كشف خوسيه مانويل ألباريس مؤخراً عن أجندة إسبانيا الاستراتيجية للمفوضية القادمة، والتي تسلط الضوء على 10 أولويات رئيسية: إكمال الاتحاد النقدي الأوروبي، وتعزيز السياسات الاجتماعية في أوروبا، وخلق سياسة صناعية، وتعميق السوق الموحدة، وتطوير اتفاقية خضراء جديدة، دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة والمناطق الريفية، وزيادة الاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة، والإدارة الذكية لتدفقات الهجرة، ودور عالمي أكبر للاتحاد الأوروبي، وميزانية أكبر للاتحاد الأوروبي، وانسجام مالي أكبر.
هنا، بالطبع، سيكون التعاون مع ألمانيا وفرنسا حاسماً، لكن سيكون على إسبانيا أيضاً أن تجد حلفاء رئيسيين في الدول الأعضاء الأصغر، وليس لديها أي شيء لتكسبه من التحول إلى فرنسا وألمانيا. وبدلاً يجب أن يتغير ذلك من خلال استخدام موقعها كزعيم للديمقراطية الاجتماعية الأوروبية لتطوير العلاقات مع شركاء جدد عبر الكتلة.