ثقافةصحيفة البعث

في “الاعتـــــراف”.. الشجــــرة السوريـــــة بقيـــــت شامخــــــة

 

تمضي بنا كاميرا باسل الخطيب بفيلمه الروائي الطويل الاعتراف-إنتاج المؤسسة العامة للسينما- من تأليفه بالمشاركة مع ابنه مجيد الخطيب- الذي أطلقته المؤسسة بعرض خاص في سينما ستي- تمضي بنا من البيت الحجري الريفي ببابه الخشبي إلى البناء غير المكتمل فوق الأدراج، رابطاً بين مرحلتين عاشتهما سورية بين عام 1980 وإجرام الأخوان المسلمين وزمننا الحالي وما فعلته داعش، برؤية سينمائية عميقة امتدت إلى العالم الداخلي لشخصيات عاشت الوجع وباحت بأسرار حبّ خفي لم يبح به إلا للذات، بأسلوب شائق جداً وهادئ وفي الوقت ذاته تشوبه دمعة حزن، تمكن الخطيب من شدّ المشاهدين لللفيلم منذ اللحظات الأولى، موحياً بأن الأمر غيرة أو خيانة لتكشف كاميرته بسلاسة مدهشة أنها قضية وطن، وبقي المفتاح الرمز المتأثر به الخطيب الذي يربطه بفلسطين حاضراً بالفيلم حينما أعطاه الفنان غسان مسعود- والد جاد – إلى نهلة –ديمة قندلفت- ليحميها من الزمن، وانتقل إلى يد قندلفت الابنة –تيما-بإشارة واضحة إلى التمسك بالمكان وبالهوية وبجذورنا القوية التي أشار إليها الخطيب بومضة خاطفة بالشجرة التي تحترق ومازال قسم كبير من أغصانها يانعاً وبقيت شامخة.
اشتغل الخطيب على الدمج الفعلي بين زمنين لتنتقل المشاهد بين الثمانينيات ووقتنا الحالي بمونتاج رائع، يتداخل أيضاً مع الفلاش باك واستحضار الذكريات والتخيلات الآنية، محرضاً المشاهد بمشاهد متفرقة في المقدمة بدت غير مترابطة، يحكي كل مشهد منها حكاية، لتحلل ضمن السياق الدرامي ويبقى المشهد المتكرر لجاد بمرحلة الطفولة الذي جسد دوره الطفل ربيع جان ببراعة وهو يطلق الصافرة ويردد “كول كول ضربة لسورية” ليمرر الخطيب عبر هذه الجملة مشهداً للأبنية المهدمة جراء الحرب الإرهابية.

حدود الحق بالعدل
ويرسم الصورة الحقيقية لسورية بصوت الكاتب جاد –محمود نصر- حينما يتحدث عن والده “مسعود” الذي يعمل بمساحة الأراضي ويعطي كل الناس حقوقهم بالعدل، وفي حال حدوث خلاف يجد حلاً يرضي جميع الأطراف، والده الذي تجبره أخلاقياته على مساعدة الآخرين وأوقع نفسه بالمشكلة التي ربما هدمت حياته وفاء منه بالمبادئ التي يؤمن بها، ويدافع من أجلها حينما وضع القدر بطريقه نهلة وابنها الصغير الهاربة من عنف عزت بعد أن طلقها لاكتشافها مكان السلاح في المنزل وعرفت أنه يعمل مع الأخوان، ليفسر مسعود مساعدته لها في مشاهد الاعتراف مع ابنتها تيما”لو كنت ما ساعدت أمي كنت عايش مع مرتك وولادك”، فيأتي رده “من يحارب ب67و73 لا يترك حدا وراه”. من هنا ينبش الخطيب صور الماضي بطلب تيما من مسعود أن يقص لها الحكاية بناء على رغبة نهلة قبل أن تموت، حكاية احتمائها برجل لاتعرفه قابلته مصادفة فأدخلها بيته لتبدأ المشكلة مع زوجته سهام –روبين عيسى- التي لم تتقبل وجودها بينهم رغم أنها كانت حاملاً بتيما، وتشتد الخلافات إلى أن يقع الحادث المشؤوم ويموت ابن نهلة وابن مسعود الصغير أثناء مشاركتهما بمباراة في الطريق إثر اشتباك يقوم به الأخوان، فتقرر الانسحاب مع ابنها جاد من حياة زوجها لتترك نظرة الأسى من عيني مسعود الذي يرفع الستارة ويودعهما مطرقاً من خلف النافذة، لتغادر نهلة أيضاً المنزل بمساعدة القاضي الذي اختطفه الإرهابيون رجال عزت إلى الشام، وتسكن في منزل رجل مسن ومقتدر يتزوجها فيما بعد وتربي تيما، ويبقى نبض حبها لمسعود خافقاً طيلة حياتها، ليقحم الخطيب جملة ترددت”ما في شي بيصير صدفة” تأكيداً على الربط بين الماضي والحاضر بعودة جاد إلى طريق تيما ومساعدتها ومرافقتها لمقابلة والدها عزت رضوخاً لتهديداته دون أن يعرف أنه في طريقه إلى الموت، ليكون ضحية جديدة من ضحايا الإرهاب، وهو الكاتب الذي ينقل إلى الورق وجع الناس الذي لايوصف، واعترض على البروفة النهائية في الأوبرا للعرض المسرحي الذي كتبه لأن ما عاشه الناس أكبر بكثير مما يجسد بالمشهد الثقافي.

الجندي وعش الظلام
بقي الانتقام هاجس عزت لاسيما بعد أن كشف الجندي السوري عمار عشّ الظلام وحرر القاضي، بدا هذا بوضوح في المشاهد الأخيرة وبالمواجهة بين عزت ومسعود وبين تيما وأخيها سالم اللذين يمثلان طرفا نقيض، تيما التي تعمل مع الجمعيات وتذهب إلى القرى النائية لتساعد مع فريق المتطوعين الأسر التي فقدت رجالها بالحرب بإقامة مشروعات صغيرة تساعدهم بسد رمقهم، وبين سالم الإرهابي الذي يشارك والده بتخريب الوطن مع أنهما من أم واحدة، لتنتهي المواجهة بقول مسعود”الإجرام الذي ارتكبتموه سابقاً والآن لم يعد يخيف الناس” فتخترق رصاصة الغدر جسد جاد، ويموت في المشفى الذي كان له دور بالأحداث.
وعلى وقع صوت جاد بحديثه عن والده بكتابه الجديد الذي تركه لتيما التي أحسّ بقربها”لم أعش إلا بمداره، ولم أتحدث إلا بأقواله” برمزية إلى أبناء سورية لتكتمل الصورة باحتضان مسعود حفيدته سوسن- رند عباس- باقتراب زوجة جاد مي –كندة حنا- التي استوعبت قصة تيما في فضاء المنزل الحجري الذي عدل عن بيعه مسعود تحقيقاً لرغبة جاد لنسيان كل ماحدث به.
ملده شويكاني