ثقافةصحيفة البعث

هل تقرأ الجرائد

 

سؤال بسيط في طرحه، ثقيل جوابه كما صخرة سيزيف، السؤال قمنا بطرحه على عينة عشوائية من الناس، في كل من دمشق، اللاذقية، حمص، والجواب الذي تلقيناه، لم يكن في الحقيقة غير متوقع أو غير معروف، لكنه جواب مخيب للآمال كلما جاء ذكره، أيضا ما من غربة في جواب الناس أو تضارب بينهم في طبيعة الجواب، فكل ما قالوه –وهم من الجنسين” بمعظمه متوقع، إنما يختلف التعبير عنه بين شخص وآخر، وهناك أيضا جواب جاء على شكل لا جواب، خصوصا وأن السؤال بدا للبعض جوابه وكأنه منته من حسم رأيه لجهة السؤال: “وهل لدينا جرائد حقا”، كان سؤالا ردا على سؤال، وما من علامة حاسمة إن كان من قالوا هذا الرأي، هم إما لا يقولون الحقيقة، أو أنهم يتهكمون من السؤال نفسه، فالخيط الفاصل بين التهكم في الجواب، وبين جديته، جاء رفيعا جدا، رغم أنه مرئي.
ضحك الشاب رامي -23 سنة طالب جامعي-وهو يخبر بما معناه “حب إيه ال أنت جاي تقول عليه”، ثم تابع وهو يمسك جواله ويريني أن كل الأخبار لديه هنا في هاتفه، فما معنى حمل جريدة ورقية، في الوقت الذي استطيع فيه وبكبسة زر أن أتصفحها؟ لكنه لم يتوقف هنا بل تابع: والدي لم يعد كما اذكره إلى البيت إلا ومعه عدة جرائد، كان يجلس عصرا على الشرفة، ويقرأها بمتعة لم افهمها.
رامي من جيل التقنية، ضرب مثلا بين الصحف الورقية وبين الإلكترونية منها، وعندما سألته: ولكن هل تعلم أن الانترنت لا يقدم المعلومة الصحيحة والموثقة كما تفعل الجريدة؟ لم يحفل بالأمر، مضى وهو ممسكا بجواله الذكي.
السيدة مفيدة “40 عاما-دمشق- طلبت بمودة أن نعفيها من الجواب، فهذا الوقت ليس وقت قراءة الجرائد، على قولها، إنها وزوجها لا يستطيعان بالرغم من عملها وعمله في عملين متتاليين، يخرج من الأول ليدخل الثاني، ولا يعود لبيته حتى آخر الليل، أن يسدان نصف احتياجات البيت والأولاد: “هل حقا تريدني أن اقرأ الجرائد التي أعرف أنها متشابهة، وخبر البارحة ما هو سوى خبر اليوم؟ هل تعتقد أن لدي من الوقت ما يسمح لي بهذا الرفاهية.
أبو عبد اللطيف- 60 عاما جالسا على كرسيه في واحد من مقاهي العاصمة، أمامه كأس شاي، وفي زاوية فمه استقرت سيجارة حمراء طويلة، أما المُفرح في الموضوع، أنه يضع فوق طاولته بضعة جرائد، دخلت إليه بكل حبور، وبعد السلام ورده، كان السؤال الذي جعل مزاجه يتغير، تكلم الرجل الستيني بكل واقعية وقال: منذ أكثر من 30 عاما، لم يفتن يوما واحدا منها دون أن أقرأ جرائدنا، لقد مرت فترة ذهبية كان لها أن تجعلها الأهم في العالم، خصوصا وأننا في حالة حرب، ما يعني أن يكون خبرنا هو المصدر لا العكس، وجرائدنا هي من يجب أن يقرأها الناس لا غيرها”، أخذ سحبة طويلة من سيجارته، تلك التي اضطر لإشعالها 3 مرات لأنها تنطفئ أو يقع ما هو مشتعل منها، فيضطر لإعادة إشعالها مرة ثانية، ثم تابع: “لحد اليوم لم يفتن يوم واحد بلا جرائد، حتى في أيام العطل، وكنت اتركها للمساء حتى يتسنى لي أن اقرأها برواق، لكنني اليوم بقيت على عادتي في شراء الجرائد التي تراها أمامي، أما ما هو موجود فيها، فإنه لمحزن أن يصل حالها لما وصلت إليه، تخيل أنني قرأت منذ مدة، خبرا من المفروض أن يكون جديدا، لكنني بين الحين والآخر أعود فأراه موجودا كما هو بالحرف، أيضا المقالات السياسية، معظمها باهت، لغة خشبية لم تتغير، وحتى صفحة التسالي لم تعد كما كانت.
في أحد شوارع العاصمة، يجلس أبو أيهم، محولا المكان الذي يشغله على أحد الأرصفة، إلى حديقة صغيرة، وخلفه وقفت جرائد ورقية كثيرة، منها ما هو عربي وما هو أجنبي، الرجل نظر إلى الصحف الورقية التي بهت لون بعضها، بعد أن سألته عن الأعداد التي يبيعها يوميا، وعاد ليقول: “هذا المكان أكل شقفة من قلبي وجسدي، أنا هنا منذ زمن لا اذكره، أبيع الجرائد، وهذا العمل هو ما ورثته عن أبي، بالنسبة لحركة البيع فها أنت ترى، وكأن المكان صحراء”؛ ولكن هل كان الحال هكذا سابقا؟ “مرت فترة من الزمن، كنت اضطر لأن أعود إلى البيت بوقت مبكر جدا، حينها كانت بضاعتي المكتوبة، تُباع كلها في أقل من 3 ساعات، اليوم أعود عندما يحل المساء، وأنا لم أبع ربع الكمية، لعن الله النت والفيسبوك وغيرها، خربت أرزاق العديد من الناس، عدا عن كونها مسؤولة وبشكل كبير عن خراب الذوق العام، كان عليّ أن اتجه صوب عمل آخر، لكن عمري لا يساعدني على “زق” الباطون والبلوك، ولا على التعتيل في سوق الهال، فما أنا فاعل؟
طبعا هناك أجوبة جاءت من قبيل أنها أي الصحف، أفضل ما يمكن أن تمسح به سيدة البيت زجاج نوافذ بيتها، ويمكن أنها أيضا من مفردات البرستيج عند العديد من الأشخاص.
هذه وغيرها من الأجوبة التي لا يمكن احتمالها لقسوتها، فلماذا صار هذا حال جرائدنا؟ يا لها من أجوبة قاسية على ذلك السؤال البسيط، جرائدنا اليوم بحاجة إلى إنعاش وضخ الروح فيها بما يعني الناس ويهمهم ويمتعهم أيضا، والعمل على ذلك واجب أخلاقي أولا، فالسلطة الرابعة تلبس اليوم تاجا من شوك يدميها بشدة.
تمّام علي بركات