أخبارصحيفة البعث

23 تموز وزمن المد القومي

د. صابر فلحوط

كأن قدر شهر تموز أن يتشرّف على أمراء التاريخ العربي، غابراً وحاضراً ومستقبلاً، باستضافة أحداث جسام، يأتي في مطلعها ثورة 23 يوليو 1952 في وادي النيل، التي أحدثت ارتجاجاً هائلاً في دماغ الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية.
فقد ائتلف شمل نخبة عروبية من الضباط الأحرار في الجيش المصري، بقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، ليحدثوا الثورة البكر في العالم الثالث، ويرتفعوا بالعروبة إلى المستوى اللائق بها كرسالة حضارية، وبوصلة قومية تستهدف الانتقال بالأمة من أصقاع الجاهلية الجهلاء إلى النور الساطع، وبرد اليقين، وذرى المجد.
وقد استطاع القائد عبد الناصر، وفي زمن غاية في القصر، أن يحوّل مصر (المعتزة بفرعونيتها) إلى بلد عروبي الهوية والهوى والانتماء.
وإذا كانت الكتابة في كل عصر هي الرسالة، يبعث بها السابق للاحق من الأجيال القادمة، فحرّي بنا اليوم نحن الذين كرّمنا القدر أن نعيش أعراس الوحدة، ونتذوق النبل والمجد من ميادينها المنتصرة، أن نقدّم الصورة التي اهتبلناها للأجيال التي ولدت بعد الثورة، وعاشت في خضم الصراعات التي واجهتها، والإنجازات التي حققتها، وبخاصة إبان الوحدة بين سورية ومصر، وفي ظلال الجمهورية العربية المتحدة “شباط 1958″، حيث تحقق الحلم القومي الذي أسعد الجماهير العربية في الدار القومية الواحدة، وجعل أعداء العروبة ينفطرون غيطاً وحقداً وكمداً ومرارة.
فقد استطاعت دولة الوحدة، بما حملت من إرادة وزخم والتفاف جماهيريين من المحيط إلى الخليج، أن تخلع أضراس الاستعمار البريطاني وأعوانه في مصر والمنطقة، كما أحكمت الحصار على الرجعية والتبعية والإقطاع والإقليمية، حيث سلّمت مفاتيح البناء والعمل والإعمار والإنتاج للمستحقين من البناة الحقيقيين أصحاب المصلحة الجوهرية في الوحدة، فشيّدت ثورة يوليو، ودولة الوحدة عموماً، المصانع والجامعات والمشافي والمدارس، والمشاريع الاقتصادية الكبرى كالسد العالي، ومعامل الحديد والصلب في حلوان، إضافة إلى تأميم قناة السويس الذي عدّ الانتصار الأكبر على الاستعمار العتيق، ولا سيما بعد هزيمة العدوان الثلاثي (البريطاني – الفرنسي – الصهيوني) في حرب السويس التي أيقظت الكادحين والمناضلين في القارات الثلاث: آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية.. ولعل أبرز الإنجازات القومية لثورة 23 يوليو كانت اللقاء التاريخي بين عبد الناصر، والمد العروبي ممثلاً بالقوى الوطنية والقومية التي كان يمثّلها في سورية حزب البعث العربي الاشتراكي، والنخب التقدمية والوطنية، حيث كانت الجمهورية العربية المتحدة مثالاً ساطعاً للدولة المتحررة، الوازنة، والمهابة التي تملك إرادتها، ورغيف عيشها وقرارها الوطني المستقل على مستوى العالم الثالث في خمسينيات القرن الماضي.
كما شهد شهر تموز (المتميز في احتضانه الأحداث المفصلية) معركة ميسلون التي برز فيها الشعب العربي السوري (الخارج للتو من ربقة الاستعمار العثماني البغيض الذي أناخ على صدر شعبنا أربعة قرون بفواجعها ومواجعها) عملاقاً في المواجهة والنضال من أجل الحرية والكرامة والاستقلال.
فقد أنذر (القائد الفرنسي الجنرال غورو) حامل أوسمة النصر الفرنسي في الحرب العالمية الأولى، سورية ممثّلة بملكها فيصل بن الحسين، بتنفيذ شروط استعمارية، منها: حل الجيش السوري، وتسليم أسلحته، وحل البرلمان، ودفع مبالغ من المال أتاوات، وإخضاع الأراضي السورية كافة لسلطة الانتداب الفرنسي.
وقد درست الحكومة الفيصلية الإنذار، وقررت الاستجابة له لعدم توفر إمكانية المقاومة، غير أن البطل يوسف العظمة وزير الحربية في ذلك التموز 1920، وقف في مجلس الوزراء قائلاً: “أعلم أنني سوف أستشهد مع جنودي في هذه المعركة غير المتكافئة، غير أني على يقين أن التاريخ لن يجرؤ على إغفال هذه المنازلة الباسلة في مواجهة العدو النازي، وسوف يقول: إن الاستعمار الفرنسي لم يدخل دمشق إلا على جسر من دماء أبنائها”.
وقد صدّق التاريخ عهده ووعده ليسجّل إن يوسف العظمة الضابط السوري البطل هو أول دفاع في العالم يصعد شهيداً بين جنوده في المعركة دفاعاً عن وطنه وتراب آبائه والجدود.. وقد كان أبطال الجيش السوري العقائدي مثال الوفاء، حيث أبدعوا في حمل رسالته في البطولة والتضحية في حرب تشرين التحريرية، أرفع أوسمة العروبة في القرن العشرين، وفي الحرب الوطنية العظمى التي حقق فيها جيشنا انتصاراً للحرية والكرامة، حيث جعل من سورية العربية جسر العبور الإجباري إلى عالم ما بعد الاستكبار والأحادية القطبية، وصولاً إلى حرية الشعوب المناضلة وانتصار إرادتها.
أما ثالثة أمجاد تموز، إنما هي استضافته لانتصار المقاومة الوطنية اللبنانية بقيادة رجل الحكمة والبسالة السيد حسن نصر الله التي مرغت جباه ضباط العدو الصهيوني وجنوده بوحل الجنوب الصامد غداة سقاهم كؤوس الإذلال ومرارة الهزيمة، بالرغم من تحالف العدو مع جميع الشياطين والأفاعي في الداخل العربي والخارج الأوروبي الأمريكي، كما نقلت المقاومة الوطن العزيز لبنان من بلد يفتخر بعض أبنائه، أنه قوي بضعفه إلى بلد أصبح يعتز أنه قوي بشعبه وجيشه ومقاومته وتحالفه العروبي مع سورية.
لقد أسست بطولات المقاومة اللبنانية وقيادتها العبقرية مدرسة في الشجاعة والبذل، وخطت طريقاً للاستشهاد الذي يصح أن يكون منهجاً للمظلومين والمقهورين، وطلاب الكرامة على المستوى العالمي، كما أكدت هذه المقاومة في السادس من تموز 2006 وما تلاها، أو سبقها في العام 2000، أن بيت العنكبوت الصهيوني سيبقى ضعيفاً حتى لو شدّ لحمته وسداه، وربط حبل بقائه “المؤقت في المنطقة” بأعمدة البيت الأبيض الأمريكي، ذلك لأن النصر في الخاتمة لن يكون إلا لأصحاب الأرض والحق، أما “العربان” من نواطير الزيت وأنصاف الرجال الذين يدفعون ثمن الرصاص الذي يقتل شعبهم، فحسبهم وصف ولي أمرهم، وسيد نعمتهم وحمايتهم ترامب “أنهم البقرة الحلوب التي يحين ذبحها عندما يجف ضرعها”..!! إن الانتصار البهّار الذي حققته سورية العربية بدعم الأصدقاء والأشقاء والمقاومة الوطنية اللبنانية شريكنا في معركة الهم والدم والمصير، لابد أن يكرّس، كما تاريخ سورية العريق، للقضية المركزية فلسطين، وتحقيق أهداف شعبنا في العودة الظافرة لأبناء فلسطين إلى ديارهم المحررة من بحرها إلى نهرها، وعاصمتها القدس، جسر الروح الواصل بين الأرض والسماء، مهما تكثّفت المواجع والفواجع والحصارات، واستشرى التآمر الأمريكي الصهيوني النفطي ضد أمتنا وأهدافنا المقدسة.