دراساتصحيفة البعث

حرب أهلية أمريكية!!

علاء العطار

باتت تغريدات ترامب وتصريحاته العنصرية أمراً اعتيادياً، بل أصبح يتباهى بذمّ وإهانة المواطنين الأمريكيين من أصحاب البشرة الداكنة، فقد انهال في نهاية الأسبوع الماضي بتغريدات عنصرية على أربع عضوات في الكونغرس، تطاول فيها على البلدان التي أتين منها، ووصفها بأنها بلدان منهارة موبوءة بالجريمة وطالبهن بالعودة إليها، رغم أن ثلاثاً منهن ولدن في الولايات المتحدة وجميعهن أمريكيات، ومع كل الإدانات التي تلقاها من كل حدب لم يبدُ على ملامح ترامب أي ندم، بل بدا أنه مصمّم على المضي في هذا الدرب.

وما يثير الاشمئزاز أن معظم المسؤولين في إدارة ترامب يغدقون عليه بعبارات الإطراء والمديح، ويدفعون عنه تهمة العنصرية، ما شجّع ترامب على التباهي بعنصريته وجعلها أساساً لحملته الانتخابية، إذ توجّه قبل أيام في مسيرته الانتخابية إلى ولاية كارولينا الشمالية، حيث شنّ هجوماً لاذعاً على أولئك النائبات واحدة تلو الأخرى، وتوقف برهة عندما وصل إلى إلهان عمر، كما لو أنه أراد أن يصبّ مزيداً من الزيت على نار العنصرية التي تلتهم قاعدته الشعبية ويمتِّع أذنيه بهتافات آلاف “البيض” وهم يصرخون: “أعيدوها إلى بلدها”!.

لم تكن تغريدات ترامب وتصريحاته العنصرية زلّة لسان ولم يطلقها جزافاً، بل إنها مسرحية سياسية تمّ التخطيط لها بدقة، وهي الإستراتيجية التي اختارتها مراكز الدراسات الأمريكية والاستشارات التابعة للحزب الجمهوري في حملته الانتخابية لعام 2020.

كانت فترة رئاسة ترامب مثيرة للجدل، وفتحت المجال لنمو العديد من المشكلات، وأُثير الكثير من الجدل حول تغريداته العنصرية وتحديد هوية الأمريكي الحقيقي ومعسكرات الاعتقال في الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، التي تحتجز أناساً يعيشون في ظروف صعبة غير إنسانية.

ويحاول ترامب تعميق الخلاف والانقسام في البلاد، ويسانده معظم الجمهوريين، لا بل يهلّلون له، فلم ينضمّ إلى النائبات الأربع الديمقراطيات في إدانة تغريداته سوى أربعة من النواب الجمهوريين، ووجد استطلاع أجرته صحيفة “يو إس إيه توديه” أن ما يقرب من ستين بالمئة من الجمهوريين يوافقون على تغريدات رئيسهم، وأن ثمانية وستين بالمئة من الشعب الأمريكي يدينونها، وهذا يعني أن المجتمع الأمريكي منشطر بين من يدين عنصرية ترامب ومن يهلّل لها، وهو ما يمكن وصفه بأنه حرب أهلية سياسية في الوقت الحالي، لكن وقع كلماتها أشدّ من دوي الأسلحة، وترامب مقتنع أن هذا يسير في مصلحته، إذ قال للصحفيين قبل أن يتوجّه إلى كارولينا الشمالية: “أظن أنني أفوز في المعركة السياسية، أعتقد أنني أفوز بفارق كبير”، ووصف النائبات بأنهن “متطرفات تملؤهن الكراهية، وعازمات على تدمير بلدنا… وأنا لن أتغيّر بتاتاً”.

شهد العالم بأسره أن ناخبي ترامب فهموا معنى تغريداته أتمّ الفهم، ولم يوافقوا عليها فحسب، بل ضخّموها بأسلوب تملؤه الكراهية، والجميع يعلم أن ترامب يدير حملته الانتخابية على أساس فكرة وجوب حظر المسلمين ووصف المهاجرين المكسيكيين بأنهم مغتصبون ومجرمون يجدر عزلهم، وهو ما تؤيده قاعدة ترامب المتشدّدة، حسب تعبير ترامب عندما قال رداً على اتهامه بأن تغريداته كانت عنصرية: “الأمر لا يهمني لأن الكثير من الناس يتفقون معي”.

إنّ تاريخ ترامب فيما يتعلق بموضوع كرهه لأصحاب البشرة الداكنة طويل وموثّق جيداً منذ أن بدأ مسيرته السياسية، إذ انتقل بشكل تدريجي من صورة المعادي للمهاجرين إلى صورة المُتّهم بالعنصرية وصولاً إلى صورته الحالية المتمثلة بالعنصرية الصريحة، ولا يمكن أن ننسى الكذبة التي اختلقها عن أوباما بأنه لم يولد داخل الولايات المتحدة، متناسياً أن عائلته حديثة العهد في الولايات المتحدة، ووعد خلال حملته الانتخابية لعام 2016 بحظر المسلمين، وما إن وصل إلى منصب الرئاسة حتى رفض إدانة المتعصّبين البيض في أعقاب مظاهرة حاشدة في تشارلوتسفيل والتي أسفرت عن مقتل امرأة دهساً، قائلاً: إن “كلا الجانبين يتحمّل المسؤولية”، كما وصف كلاً من هايتي والسلفادور والدول الإفريقية بأنها “أوكار قذرة”!.

وفي هذا المجال، تقول المختصة النفسية الأمريكية، سوزان لاخمان، في حوار مع صحيفة “بيلد” الألمانية: “إن ترامب شخص غير جدير بالحكم.. إنه شخص يشكّل خطراً على الآخرين وعلى العالم نظراً لأنه يعيش في عالم منعزل عن الواقع، وأكثر ما يُنذر بالخطر هو أن الكثير من الأشخاص على شاكلة ترامب انتهى بهم الأمر بارتكاب جرائم قتل على غرار المجرم الأمريكي مارك دافيد تشابمان، الذي قتل المغني الأمريكي جون لينون، وفي حالة ترامب، أخشى أن يقود البلاد إلى حرب أهلية”.

ربما تكون هذه الحرب الأهلية قد اندلعت بالفعل، فلا أحد ينكر أن عدد الهجمات الإرهابية يتزايد باطراد منذ قدوم ترامب، ولم يكن أيٌّ من “المتطرفين” سببها بل كان الجناة من المتشددين البيض، وهم يهدفون لشنّ هجمات على أهداف دينية وعرقية في الولايات المتحدة، كما أنهم يتمتّعون بتسليح جيد.

وتلعب وسائل الإعلام الأمريكية دوراً في مساعدة المتطرفين على التجمّع وتنظيم الأحداث وإيجاد أرضية مشتركة، ما يعزّز الجهود لتوسيع الحركات المتطرفة، وهو أمر خطير، لأن دعوة ترامب العنصرية لإخراج الأجانب امتدت إلى أوروبا، فحدثت جراء ذلك أعمال إرهابية ضد المهاجرين كالتي شهدتها نيوزيلندا.

عزّز ترامب بقدومه حالة الانقسام التي يشهدها المجتمع الأمريكي، فالديمقراطيون ينظرون إلى الجمهوريين على أنهم مجموعة من العنصريين والفاشيين المعادين للتقدمية الليبرالية، وينظر الجمهوريون إلى الديمقراطيين على أنهم مجموعة من المهاجرين من أصول متعدّدة، وعملت تغريدات ترامب وتصريحاته العنصرية على زيادة الشقاق بين الحزبين، فذهب أحدهم إلى أقصى اليمين والآخر إلى أقصى اليسار، وخلق ذلك جانبين متنافرين في المجتمع الأمريكي يقاتلان بعضهما ويقسمان البلاد بدرجة غير مسبوقة، لكن ليس واضحاً في المدى القريب إن كانا سينفصلان كلٌّ في دولته الخاصة.