ثقافةصحيفة البعث

شـــــاشـــــات الـــــدم

 

جائحة لم يسلم منها مجتمعنا المحلي والعربي عموما، هواء اصفر قاتل، إيقافه صار شبه مستحيل، نار لا تنتهي تلتهم الأخضر واليابس طالما أن وقودها حاضر من الحطب سريع الاشتعال أو من قداحة “ديبون” فاخرة، لا فرق طالما أن الاقتتال تحت راية “الله”–زورا وبهتانا- مستمر دون هوادة؛ إنها مئات بل ألوف الفضائيات الأجنبية من كل لون ولسان، الكثير من الأشخاص مستنفرون سلفا لبث الفرقة ورفع راية القتل بين الناس الذين خُلقوا شعوبا وقبائل ليتعارفوا لا ليتذابحوا، ساعات لا تنتهي من البث المركز بعناية على ما تريد أن تشيعه بين الناس من أفكار لها شكل ناب الأفعى، تارة تغازل الغريزي البحت في وجدانهم، وتارة تلعب على الترهيب إن كان في إذكاء النعرات الدينية أو التحريض على الانتصار كل للبدعة التي خرجت من فتوى جاهلة وخبيثة بآن، فالغرب الذي أنهى حروبه في القرون الوسطى، ودارت عجلته الصناعية، يريد وقودا لدوران العجلة، والنار التي اكتوى بلهيبها لسنين طويلة في اقتتال دام وطويل، قام بإهدائنا إياها بكل سقمها وأمراضها، وها هو الرعب والقتل والذبح –على الطريقة الحلال- ثالوث فناء، ينتصب كالمشانق في صدور بيوتنا على هيئة شيطان ملون.
تلك الجائحة لم تسفح ماء وجهها فقط وكشف العورات الأخلاقية المزرية لمموليها، بل إن دماء أناس من مختلف الشرائح العمرية والفكرية والطبقية، كانت العديد من تلك الفضائيات، هي من حرضت على قتلهم وبكل برودة أعصاب، دون أدنى تفكير ولو قيد أنملة من الشعور بخسة الفعل وخسة ضريبته الباهظة في التاريخ، وصار الدم والدم الآخر، هو السائد عوض الرأي والرأي الآخر!
إنها وحوش فضائية ساهمت وبشكل لا يصدق، بتحويل مختلف ما حدث في “بلاد العرب أوطاني” ليس إلى ثورات ضد الفساد أو غلاء المعيشة وغيرها من ظروف الحياة الصعبة، بل بتحويل حتى لعب الأطفال والأكلات الطيبة التي يحبونها، إلى أدوات للقتل والمزيد من سفك الدم المحرم في كل الشرائع، إلا بما هو على وجه حق.
تلك القنوات تشتغل على كل ما يجذب العين أولا، مستغلة كل ما يمكن عمله لاجتذاب أكبر شريحة من الحضور، استوديوهات تصوير متطورة ومناسبة للموضوع من جهة الألوان والصوت والمزاج العام الذي يرافق مواضيع فارغة من المضمون بشكل فعلي، لكن هذا ما ليس يعنيها إنها تلعب على الغرائز، لا على تحريك مياه الفكر الراكدة، كاميرات التصوير عالية التقنية، والتي تعمل بشكل أساس على رفع جودة الصورة بتطوير النظام البصري، إي إخراج الصورة التلفزيونية بالحالة الأنقى والأكثر ألقا من غيرها، الاتصالات الوهمية المصنوعة بحرفية لزيادة السُعار والملاسنة والضرب على الهواء مباشرة، ملايين الدولارات المتدفقة في بنوك مخفية، بالجزء اليسير منها–أي الدولارات- يمكن به إعادة إعمار غزة مثلا!، أشخاص مستعدون من تعصبهم الغرائزي أن يقتتلوا في الحوار والذي من المفروض أنه الحل للقتال!، المصيبة أن اغلب تلك القنوات سواء الفضائية منها أو المنتشرة كالفطر بين مواقع التواصل الاجتماعي، هي من أكثر القنوات متابعة من حشود لا من جمهور، وبالتأكيد الفرق هائل بين مفهوم الجمهور ومفهوم الحشود، حالة قطيعية لم يسبق لها أن ارتفعت عقيرتها بهذا الشكل البربري، والنتيجة، دول عربية محطمة، وأخرى مُستعبدة، دول تشحذ حد السكين على رقاب الفقر، وحكومات تتلاعب بمصير وتاريخ أمم وحضارات، إن بقي الحال على ما هو عليه، يمكن لها أن تختفي. والحقيقة أنه من النادر أن نشاهد أو أن نسمع لصوت العقل –في حال وجد-وما من متابع ولو من باب التسلية أو المراقبة لتلك المنابر الوضيعة، يستطيع الوصول إلى حكم عقلي واضح حول ما يُطرح، الحُكم على السباب والشتائم والتكفير والحمل على القتل؟ تلك اللوثة لم تنجُ الدراما التلفزيونية منها، ولسوف تستغربون لو قمنا بتعرية هذا العمل الدرامي أو غيره، كمية السم التي يتم ضخها بالشكل الناعم، فهذه الأعمال تحقق ربحا لا يُستهان به، وهذا ما يعنيها في المقام الأول، وفي الوقت الذي يُنتظر فيه من الأعمال الدرامية أن تكون تنويرية عموما، إلا أن واقع حالها ليس كذلك، فمن ثمارهم تعرفونهم، وكم هي ثمار فجة، مُرة، مسمومة، تلك التي يراد لشعوب العالم الثالث عموما أن تقتات عليها.
اليوم لم تعد المدافع والبنادق والطائرات المدججة بالسلاح ومثيلاتها، هي لوحدها من يصنع الحروب، وما على من يريد أن يتفرج على هذه الفرجة الدموية، إلا أن يتابع الدراما التي دخلت على الخط إياه، برامج مشغولة خصيصا للنبش في غيبوبة الفتنة التي كانت نائمة فاستيقظت، فلعن الله والتاريخ من أيقظها وجعلها عملة من حقد، بنوكها الأرواح السوداء الجاهلة، والقلوب التي هجرتها الرحمة إلى غير رجعة. جاء في أحد الأحاديث القدسية الموثوقة الحديث التالي: “الناس نيام، إن ماتوا تنبهوا”، وعلى ما يبدو أننا لا زلنا في حالة “إن ماتوا”، أما حالة “تنبهوا” فمن الواضح أنها لم تقم من رقادها بعد.
تمّام علي بركات