الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الأصل والصورة

د. نضال الصالح

في المرويات القديمة أنّ امرأة تدعى فليكة بنت بحدل الكلبية، نسبة إلى بني كليب، أحد فروع تغلب، سمعت ذات يوم بقصة امرأة من بني ربيعة يقال لها ليلى العفيفة، وتكنى بزوجة البراق، ومن بعض تلك القصّة أنّ ليلى كانت أجمل نساء زمانها، وأنها امتنعت على أحد أمراء العجم الذي كان أسرها، ثم رغب في الزواج منها، إلى أن أنقذها ابن عمّها، البرّاق بن روحان، ثم تزوجها، وهي صاحبة القصيدة التي مطلعها “ليتَ للبرّاق عيناً فترى/ ما ألاقي من بلاء وعنا”، والتي كانت قالتها وهي في الأسر.

لم تكد فليكة تسمع بالقصة، حتى قررت التشبّه بليلى، فما تركت صباغاً لم تضع شيئاً منه على وجهها، ولا عطراً إلا ادّهنت به، حتى ازدادت بشاعة على البشاعة التي شاءتها السماء أن تكون عليها. ولم تكتف بذلك، بل قررت أن تكون شاعرة مثل ليلى العفيفة أيضاً، فمضت إلى الشاعر الحطيئة الذي ما إنْ رآها، حتى حمدَ ربّه على خلْقه الذي طالما شكى منه في شعره، ولم يكد يعرف السبب الذي دعا المرأة إلى مسيرها إليه، حتى حسبل وحوقل، وتشاءم، وتطيّر، وعندما أصرت عليه أن يسمعها، واستسلم لرجائها أخيراً، لم يجد نفسه إلا وهو يستعيد ما كان هجا به أمّه نفسها، أي قوله:

تنحيّ، فاقعدي منّي بعيداً

أراحَ اللهُ منكِ العالمينا

وقيل إنّ شيطان الشعر بعد رؤيته فليكة وسماعه شعرها جفاه لحول كامل.

ليست حكاية فليكة فريدة في التاريخ، ففي كلّ زمان ومكان تزدحم الحياة بأمثالها من النساء، ومن الرجال، بكلّ تأكيد، الذين توسوس أوهامهم لهم بأنّهم يمكن أن يكونوا معرفة، ثم لا يكونون مهما حاولوا ذلك، أو توسلوا إلى ذلك من أدوات ليصبح أحدهم دالاً على معيّن، أو على واحد من جنسه، كما يقول النحويون في تعريفهم المعرفة. فالجمال شأن سماويّ، والإبداع موهبة، وصفة فطرية وليست مكتسبة، وشرطه الأول والأخير أن يكون أصلاً في الذات وليس صورة.

ومن المدهش أن تغصّ المكتبة العربية، والعالمية أيضاً، بغير كتاب يشبه تلك التي تباع على الأرصفة من مثل: “تعلّم الإنكليزية في خمسة أيام”، أو “تعلّم اليابانية في أسبوع”. ومن تلك الكتب ما صدر عن دار القلم في دمشق قبل نحو سبع سنوات بعنوان: “كيف تصبح كاتباً”، وقبله ما صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة قبل نحو اثنتي عشرة سنة بعنوان: “كيف تصبح أديباً”، وغير ذلك ممّن ينتسب إلى المجال نفسه، من مثل: “كيف تكون شاعراً”، أو “كيف تكون روائياً”، أو “كيف تكون ناقداً”، وعلى نحو يذكّر بالكتب الأكثر رواجاً في معارض الكتاب بعد كتب الطبخ، أي: “كيف تصبح مليونيراً”، و”كيف تصبح ناجحاً”، و.. وسوى ذلك.

من بديع حكم المتنبي في شعره قوله:

وكلٌّ يرى طرقَ الشجاعة والندى

ولكنَّ طبْعَ النفس للنفس قائدُ