تحقيقاتصحيفة البعث

بموافقة الأهل عمالة الأطفال.. استغلال بشع للطفولة وجريمة بحق المجتمع.. والاتهامات تلاحق الظروف المعيشية الصعبة

 

خلال استطلاعنا لأوضاع عدد كبير من محلات حي المزة 86 لاحظنا وجود أعداد كبيرة من الأطفال من أبناء المهجّرين يزاولون أعمالاً في تلك المحلات، وفي أغلب الأحيان يوجد أكثر من طفل في المحل الواحد، ما يدل على انخفاض أجرهم اليومي، والتراخي من قبل الجهات المعنية في ضبط هذه الظاهرة المتفشية، ناهيك عن الأعمال الأخرى كبيع الخبز بضعف سعره أمام أفران المزة، أو يعملون في صالونات الحلاقة، والمعجنات، والمطاعم، وقد أكد لنا الطفل هيثم بأنه منذ أربع سنوات نزح مع أهله من الرقة، وأقاموا في منزل بالإيجار، وبدأ يعمل في محلات بيع الخضار، وتوصيل الطلبات لبيوت الزبائن مقابل أجر يومي زهيد، وبعض الإكراميات، وذلك لمساعدة والدته التي تعمل في معمل للمرتديلا بعد وضع والده في السجن، أما الشقيقان الطفلان عمر ومحمود فيعملان في أحد محلات الميني ماركت لمساعدة أهلهما النازحين من دير الزور منذ عام 2013 لعدم وجود مصدر رزق سوى مرتب والدهما، أما الطفل حسين فيعمل بتوصيل أسطوانات الغاز للبيوت رغم هزالة جسده لمساعدة شقيقه الأكبر في مصروف المنزل بعد نزوحهم من دير الزور منذ عدة سنوات، وأكدت أم إبراهيم أنها بعد وفاة زوجها في بداية الأحداث في محافظة درعا نزحت مع ابنتيها وثلاثة أولاد، وهي تعمل في خدمة المنازل بمساعدة أولادها لتتمكن من تسديد إيجار المنزل، وتأمين متطلبات أولادها الذين تركوا الدراسة واحداً تلو الآخر لمساعدتها، ولعدم وجود أية طموحات لديهم بعد دخولهم في ظروف غير مألوفة بالنسبة لهم، وقد دافع عدد من أصحاب المحلات عن أنفسهم قائلين بأنهم يقومون بتشغيل هؤلاء الأولاد بطلب من أهاليهم، وبدافع الشفقة والمساعدة، وهم ليسوا مسؤولين عن الخطأ الحاصل في حياة هذا الطفل الذي منعه أهله من متابعة دراسته، والزج به في سوق العمل بسبب سوء وضعهم المادي، أو لمجرد تخلف أهله اجتماعياً، في حين لاحظنا أن عدداً من أصحاب المصالح المكتفين مادياً قاموا بوضع أبنائهم الصغار في محلاتهم وورشاتهم لمساعدتهم في العمل، وتوارث المصلحة والكار، وكان واضحاً أن العملية غير خاضعة لأية قوانين، أو جهات رقابية تتابع عمالة هؤلاء الأطفال، رغم ممنوعية وخطورة الظاهرة، وانتشارها الواسع، وما تحمله من هضم للحقوق واستغلال!.
الانسلاخ عن الأسرة
عتاب الزحيلي، مستشارة اجتماعية، وطالبة ماجستير، قسم علم الاجتماع، كلية الآداب، جامعة دمشق، أكدت أن الأحداث من أكثر الفئات المظلومة خلال الأزمة، وأنها تركز على تقديم عدة دراسات اجتماعية عن أوضاعهم لعدد من الجمعيات المعنية بالطفولة والأسرة، وأن الظروف السيئة دائماً تدفع الأطفال لارتكاب أشياء لم تكن ضمن إرادتهم، كما أن عمالة الأطفال من المواضيع التي لا تلقى للأسف الدعم الإعلامي، وحادثة الطفل الذي لقي تعذيباً وحشياً على يد صاحب محل حدادة كان يعمل لديه في إحدى ضواحي دمشق هي من أشعلت مؤخراً مواقع التواصل الاجتماعي، ونبهت لخطورة هذا الموضوع الذي كان شبه غائب عن الساحة الإعلامية، وأوضحت الزحيلي أن عمالة الأطفال تنطوي على الاستغلال الاقتصادي لهم لجهة طاقتهم الجسدية، والفكرية بغية تحقيق المنفعة، سواء من قبل الأهل أو صاحب العمل، وأن رضى الأهل يكون في الدرجة الأولى الدافع لهذا النوع من العمالة، إضافة لأسباب أخرى كالظروف السيئة التي فرضها واقع الأزمة كنزوح العائلات، وسوء الوضع الاقتصادي، وتم وضع عدد كبير من الأطفال الذكور في أية مهنة لممارستها، والأخطر هو عمالة الإناث اللواتي غالباً ما يتم تشغيلهن في أعمال لاأخلاقية تنطوي على استغلالهن جسدياً في عمر مبكر، ومن أبرز الآثار السلبية لهذه الظاهرة توقف نمو الطفل على الصعيد الجسدي، وخاصة عند ممارسته للمهن الشاقة، إضافة لتوقف نموه العقلي بعد تركه الدراسة والتحصيل العلمي، والأثر النفسي بسبب تعرّضه للتوبيخ الشديد، والإهانة، أو الضرب من قبل صاحب العمل، أو حتى الاستغلال الجنسي في بعض الحالات، وتأثير ذلك على تربية الطفل الذي لن يرتدع في حال توبيخه من والديه على أية أعمال خاطئة، كما أن الطفل سيفقد انتماءه للأسرة بسبب عدم احتضانه ورعايته من قبل والديه، وتركهما له يعتمد على نفسه كأي رجل، وسيغدو حاقداً عليهما، وعند تقدمه في السن لن تجمعه أية أواصر بأسرته، وأكدت الزحيلي أن حل هذه الظاهرة ممكن جداً، رغم صعوبة الظروف، والفقر، من خلال نشر التوعية للأهل عبر وسائل الإعلام، والأنترنت، ولوحات الإعلانات، ومؤسسات الدولة، والمراكز، والمنظمات الاجتماعية بهدف تنبيه الأهل لآثار هذه العمالة، ومضارها على الطفل، والتوعية بأن هذه العمالة مهما حققت من فوائد مادية ستبقى مؤقتة، ومضارها ستمتد وتستفحل في المستقبل، وعند ذلك سيؤمن الأهل أنه لابد من تطوير قدرات ابنهم حتى لا يتحول في المستقبل القريب إلى نقمة، وأكدت الزحيلي أنها قابلت، خلال الفعاليات الاجتماعية التي تشارك فيها، أطفالاً مشردين قام أهلهم بالتخلي عنهم، ولدى سؤالهم إن كانوا يرغبون بالعودة إلى أهاليهم عبّروا عن رفضهم ذلك بعد أن اعتادوا الحياة والعمل بأنفسهم، وكان يظهر جلياً مدى انسلاخهم عاطفياً واجتماعياً عن أهلهم، وأكدت الزحيلي أن هذه الظاهرة وجميع المشاكل المتصلة بالطفولة لا تتحمّل الإهمال أو التأجيل لأنها ستتفاقم، ويستحيل حلها مستقبلاً، وستظهر الأمراض النفسية لدى الضحايا مع تقدمهم في السن كإصابتهم بمرض الاكتئاب.

تخلف اجتماعي
وجهنا عدة تساؤلات حول الموضوع إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل فوردنا فاكس من قبلهم أكدوا من خلاله أن عمالة الأطفال تضع عبئاً ثقيلاً على الطفل، وخاصة عندما يدرس ويعمل في آن واحد، وتعريض حياته للخطر، وتعتبر من أسوأ الظواهر محلياً ودولياً لما فيها من انتهاك لإرادة الطفل، وارتباطها في كثير من الأحيان بأمور لاأخلاقية، إضافة لاستخدام الطفل في أمور غاية في الخطورة، واللاإنسانية، وزرع بذور القتل والإجرام في عقله منذ الصغر، كما فعلت المجموعات الإرهابية المسلحة في ظل الأزمة السورية التي اعتمدت عمالة الأطفال لديها بعد تحميلهم السلاح، وتعد المفاهيم الموروثة، والتقاليد البالية، والجهل، والأمية، من أبرز أسباب انتشار هذه العمالة التي تحدد مهنة للأطفال الذكور ومستقبلهم منذ الصغر، وتحرّض الإناث على ترك المدرسة لمساعدة الأم في الأعمال المنزلية، ومن ثم الزواج المبكر، دون الالتفات للتحصيل العلمي، وتكمن الأسباب القانونية لتلك العمالة في تراخي القوانين التي يفترض أن تجرّم الأهل، وصاحب العمل، كما أن تدني دخل معيل الطفل، أو وفاة المعيل، وانتشار البطالة، شكّلت أبرز دوافع عمالة الأطفال، مع تفاقم سوء الوضع الاقتصادي.

الإجراءات
وحول تساؤلنا عن الإجراءات المتخذة من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لكبح هذه الظاهرة، فقد بيّنت الوزارة أنها عملت على تشكيل لجنة لدى “الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان” بغية وضع خطة عمل لمكافحة هذه الظاهرة من خلال رفع مستوى معيشة الأسر، ونشر التوعية الوقائية، وتعزيز الأعمال اللائقة للأسر، وبرامج التعليم المهني، وتشجيع التعليم المهني، وتحقيق الأهداف المذكورة آنفاً من خلال نشر مراكز التنمية الاجتماعية، ووضع برامج لتمكين المرأة، وتصميم مشاريع ربحية للأسر الفقيرة جداً، والتدخل إعلامياً من خلال قيام الوزارة بإنتاج مواد إعلامية حول حقوق الطفل بشكل عام، وعمالته بشكل خاص، والتشجيع على التعليم، والعودة للدراسة، وإنشاء دورات تقوية للمتسربين دراسياً، وتفعيل قانون إلزامية التعليم في كل المناطق، وتأسيس مراكز التدريب المهني للأطفال، ومراكز لتدريب المرشدين النفسيين، وجعل التعليم المهني مأجوراً، كما قامت الوزارة بتأسيس دور ومكاتب لمكافحة التسول، ومراكز لاستقبال الأطفال الذين تعرّضوا لإساءات جراء عمالتهم، وتعمل الوزارة على تقديم برامج تدخلية لتوعية أهالي الأطفال من ضحايا ظاهرة التسول، إضافة لمساعدة أهاليهم في برامج تمكين المهن، وتحسين سبل معيشتهم كي لا يعتمدوا على أطفالهم في التسول مجدداً، وذلك بالتعاون مع عدد من الجمعيات الأهلية، واعتماد برامج التمويل الصغير بالتعاون مع صندوق المعونة الاجتماعية.

المساءلة
أعتقد أنه يوجد حل جيد وسريع لهذه الظاهرة، وخاصة بعد تعافي معظم المناطق، من خلال ضبطها، ووضع غرامات عالية جداً لتكون رادعاً لمن يحاول الاستعانة بالأطفال للتوفير في تجارته وأعماله، وقمع ظاهرتي التسول، وبيع الخبز أمام الأفران، إضافة للحلول المطروحة أعلاه.

بشار محي الدين المحمد