أخبارصحيفة البعث

معركة المزرعة إحدى بوابات الاستقلال الوطني

 

الثاني من آب 1925 كان موعداً مع القدر والنصر، في المنازلة الكبرى بين أبطال معركة المزرعة في جبل العرب وجيوش المستعمر الفرنسي، فبعد احتلال لبنان – الذي كان بعض أبنائه شعارهم الذهبي (إن لبنان قوي بضعفه)، وصلت جيوش الجنرال الفرنسي غورو إلى ميسلون غربي دمشق، حيث كان يتصدى لها رجال بواسل بقيادة البطل يوسف العظمة الذي رفض أن تدخل جيوش المستعمر إلى عاصمة الوطن دمشق إلّا على جسر من الأشلاء والدماء، فانطلق في أتون المعركة، ليدخل إلى سجل الخالدين بتفرده، لأنه وزير الدفاع الأول في تاريخ العالم الذي يستشهد بين جنوده في أرض المعركة، الأمر الذي أشعل أقلام الكتّاب، وقرائح الشعراء:
كم لنا من ميسلون نفضت
عن جناحيها غبار التعب
كم كبت أجيادنا في ملعب
ونبت أسيافنا في ملعب
لا يموت الحق مهما لطمت
عارضيه قبضة المغتصب
ولأن الشعب العربي السوري سليل مدرسة الجهاد والاستشهاد والبطولات كابراً عن كابر، فقد أجمع ثواره وأحراره وقادته العظام على تفجير الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، والتي عمّت كل شبر من الوطن، جبلاً وسهلاً وساحلاً وبادية، لتحيل التراب والحجارة ناراً، وبراكين تحت أقدام العدو الغازي.
وقد تعددت أسماء المعارك، وتألقت فيها شهرة قادتها وشهدائها، وتبارى بواسلها في تقديم أرواحهم على مذبح الحرية والكرامة، وانتشرت أهزوجة المقاتلين
تربة وطنا ما نبيعا بالذهب
دم الأعادي نجبلو بترابها
على كل لسان في ذلك الزمان المائج بالأضاحي وصور الفداء..
وقد تألقت معركة المزرعة نجماً ساطعاً في عزائم الثوار، وكابوساً مرعباً خردق أحلام المستعمرين لعدة اعتبارات: أولاً لأنها كانت أكبر المعارك، وأشرسها ضد العدو، لجهة كثافة أعداء القتلى من العدو الغازي، وانتشار جثث جنوده على مساحات شاسعة من أرض المعركة بشهادة الصحافة الفرنسية.. ثانياً: خلفيات القرار الفرنسي في تشديد الضربة على جبل العرب المعروف جيداً لدى المهاجمين بالصلابة والشراسة، والإيمان الذي يدفع الثوار للموت في سبيل الوطن والكرامة ليقينهم بالانتقال العفوي والتلقائي من مرحلة إلى أخرى في حياة المقاتل.. ثالثاً: حرص العدو على تشديد ضربة كسر العظم في المزرعة لإلقاء الرعب في قلوب المناضلين في الجبهات الأخرى من أرض الوطن.. وقد جاءت حصائل معركة المزرعة هزيمة نكراء للعدو الفرنسي.
وقد ذكرت الصحف الفرنسية، ولا سيما الصحيفة الأبرز (لوموند) أن المقاتلين السوريين في المزرعة أظهروا من ضروب البسالة ما يمكن أن يعتبر فريداً، وغير مسبوق في تاريخ المواجهات بين جيوش مدججة بالسلاح حتى الأسنان، وبين مقاتلين لا يملكون إلّا الخناجر والسيوف، وبعض السلاح المتهالك من بقايا المواجهات ضد المستعمر العثماني..
ومما روته صحف العدو (والفضل شهدت به الأعداء) أن الأبطال كانوا يواجهون الدبابات الفرنسية باللحم الحي، ويخلعون عمائمهم عن رؤوسهم، ليسدوا بها فوهات مدافع الدبابات إمعاناً بالثقة، واستعجالاً للموت من أجل الحياة الأكرم!!.
كما روت صحف العدو الفرنسي حكاية المجاهد الشيخ سلمان العقباني الذي تجاوز السبعين من عمره، وكيف اشتبك مع النقيب الفرنسي الذي نزل من دبابته بعدما نفدت ذخيرتها وتعطلت، وقد سقط الاثنان أرضاً.. وبما أن طول القامة لم يكن متكافئاً (بين الشيخ المربوع، والنقيب الطويل)، فقد استوت رقبة الضابط فوق فم الشيخ الذي لا يملك سوى سنين عجوزين أطبقا على حنجرة الضابط حتى السحق والموت المحقق، وكانت هذه الحادثة أقصوصة من حكايات المزرعة التي ينقلها الآباء للأبناء والأحفاد. وقد أبدع شاعر الثورة السورية الكبرى، رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي ) في وصف معركة المزرعة، وسواها من معارك الوطن، إذ يقول واصفاً الجيش الفرنسي، وهزيمته الشنيعة:
من قمح حوران أراد وليمة
فأتاه سم الموت من حوران
صاح المروءة يا فرنج فليس لي
في صدّ غارات الرجال يدان
عهدي بهم في السلم حملاناً
فوا رعباه بعدهم من الحملان
وبعدما يصف البطولات، والقائد سلطان باشا يحثهم بقوله:
فذ كغيث به سؤال الناس من
تعني وهل أعني سوى سلطان؟!
ويتابع بقصيدة أخرى مخاطباً القائد:
فيا لك أطرش لما دعينا
لثأر كنت أسمعنا جميعا
وحولك من بني معروف جمع
بهم وبدونهم تغني الجموعا
كأنك قائد منهم هضاباً
تبعن إلى الوغى جبلاً منيعا
وقد ألهبت، بل ألهمت معركة المزرعة الثورات الوطنية على امتداد ساحة الأراضي السورية، حيث تألقت بطولات القادة العظام: في الساحل البطل الشيخ صالح العلي، وفي الجزيرة أمير شلاش، وفي حلب إبراهيم هنانو، وفي الجولان مريود والفاعور، وفي دمشق والغوطة محمد الأشمر، وحسن الخراط، إضافة إلى رجال السياسة والفكر الأفذاذ الذين حوّلوا انتصارات الميدان إلى مواقف وإنجازات وقرارات في السياسة على الصعد الوطنية والدولية أمثال: شكري القوتلي وعبد الرحمن شهبندر وفارس الخوري وسعد الله الجابري وهاشم الأتاسي وخالد العظم، إلى آخر السلسلة الطافحة بالحلقات الذهبية من رجالات الجلاء الأغر، والاستقلال الناجز الذي تولت حراسته وحمايته وتطويره أجيال ثورة الثامن من آذار 1963 والتصحيح المجيد 1970 بقيادة باني سورية الحديثة القائد المؤسس حافظ الأسد وجنود تشرين، وأبطال الحرب الوطنية العظمى الذي شهد العالم لهم بالجسارة والجدارة وصناعة النصر في مواجهة الإرهاب التكفيري الوهابي الرجعي وصناعة النصر الذي أدخل سورية في دائرة الأرقام الصعبة بين الدول المناضلة للانتقال إلى عصر جديد في عالم اليوم، عنوانه كرامة الشعوب واستقلال قرارها في مواجهة الاستكبار العالمي والأحادية القطبية والغطرسة الصهيونية.