دراساتصحيفة البعث

الإنفاق العسكري الروسي..ما يكفي وليس أكثر!

لمى عجاج

استندت إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة إلى هدف جوهري، هو عدم السماح ببروز قوة عظمى أخرى على الساحة الدولية وعلى رأسها روسيا، لأجل ذلك عمد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى رسم معادلة جديدة في ظل سباق التسلّح الذي يلوح في الأفق، تقوم على مبدأ يضمن أمن روسيا دون الانخراط في سباق التسلح المرهق، وهذا ما شدّد عليه خلال مؤتمر الاجتماع السنوي الموسع لوزارة الدفاع الروسي، حين أوضح أن الإنفاق العسكري للبلاد سينخفض ​​تدريجياً لأن روسيا ليس لديها أي نيّة للقيام بدور “الدركي العالمي”، وأنها لا تسعى للانخراط في سباق تسلح “لا طائل منه”. وأضاف: إن موسكو ستلتزم “بالقرارات الذكية” لتعزيز قدراتها الدفاعية، وتابع الرئيس الروسي بأن إعمال “العقل والذكاء والانضباط والتنظيم” يجب أن يكون حجر الزاوية في العقيدة العسكرية للبلاد، لأن آخر شيء تحتاجه روسيا هو سباق تسلح “يهدر” اقتصادها،  وهو “السيناريو” الذي ترفضه موسكو، فيجب ألا ننسى دروس حروب الماضي بل يجب أن نتعلم منها.

لقد كان الاتحاد السوفييتي فيما مضى دولة “استثنائية”، كانت أول دولة اشتراكية في العالم وكان لها “مستقبل مشرق”، كانت مثالاً يُحتذى به للجميع وفي عام 1977 تمّ إقرار دستور جديد هو دستور “بريجنيف” الذي تمّ استهلاله ولأول مرة بمقدمة تطرقت إلى تاريخ الاتحاد السوفييتي وتضمن وصفاً لـ”المجتمع الاشتراكي المتطور”. لقد كان للاتحاد السوفييتي قواعد ومصالح في جميع أنحاء العالم، وكان الأداة الأساسية للدفاع عن مكاسب الثورة وبناء الاشتراكية، وهكذا بدأت الإنسانية في التحول من عصر الرأسمالية إلى الاشتراكية. أما اليوم فلا يوجد لدى موسكو الرغبة بأن تأخذ روسيا زمام المبادرة في أي مكان سوى روسيا نفسها، وربما هذا هو السبب الأساسي الذي يدفع بوتين للحديث دوماً عن دور الأمم المتحدة واستقلال الدول القومية، وعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية وذلك في إشارة منه إلى -ما يُسمّى بنموذج معاهدة “ويستفاليا”- النموذج الذي توّج السلام في أوروبا الوسطى بعد حرب الثلاثين سنة وساهم في قيام دولٍ في أوروبا على مبدأ (الدولة- الأمة) على أساس السيادة المستقلة، في استذكار للماضي وللحروب التي أنهكت العالم مما يدلّ على أن موسكو ليس لديها أية مصلحة في التدخل في شؤون غيرها من الدول، لذا كان يجب التفريق بين الأممية/ التمييزية (ذات النزعة التمييزية الاستثنائية) وبين القومية، فكل واحدة منها تمتلك مقاربة مختلفة تماماً عن الأخرى في ما يتعلق ببناء الجيش، فالنمط الأول مهووس بـ”إطلاق القوة” أو “تفوق الطيف الكامل” والذي يتصوّر أن مصلحته تكمن في بناء جيش ضخم يهيمن على جميع بقاع العالم، وهذا ما يتطلّب احتياجات باهظة الثمن غير محدّدة وغير محدودة، أما النمط الثاني فهو مهتم فقط بالدفاع عن نفسه في مواجهة الأعداء بتخصيص ميزانية محدودة للإنفاق العسكري، بمعنى أن “الاستثنائي” يتدخل في شؤون غيره من الدول ليفرض سيطرته عليها، أما “القومي” فيتدخل ليحمي نفسه من أي تدخل في شؤونه، لذلك من الأسهل والأرخص بكثير أن أكون قومياً على أن أكون استثنائياً.

تنفق الولايات المتحدة الأمريكية (الاستثنائية/ التدخلية) أكثر بكثير من أي دولةٍ أخرى ولكنها تطمع دائماً بالمزيد، في حين ترغب روسيا القومية بخفض نفقاتها، لقد كانت رغبة الاتحاد السوفييتي في التنافس أو التفوق على الولايات المتحدة الأمريكية في جميع المناطق العسكرية عاملاً مساهماً في انهيار نظام التحالف واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، فالتقدير الشائع هو أن 15٪ على الأقل من إنتاج الاتحاد السوفييتي أُنفق على الجيش، فقد انخرط الاتحاد السوفييتي في جميع أنحاء العالم بتأمين “مستقبل مشرق” للاشتراكية والذي كلفه ذلك تفككه من الداخل، ولكن بالنسبة لبوتين وشركاه فإن “المستقبل المشرق” هو لمصلحة روسيا فقط  بغض النظر عما إذا وافقته الدول الأخرى على هذا الرأي أم لا، فعلى الرغم من تطرق بوتين في بعض الأوقات إلى الحديث عن الليبرالية عندما أدلى برأيه للصحافة حول الثرثرة التي أُثيرت عن تهديد الشعوبية للسلام العالمي في مؤتمر السلام الذي عُقد في باريس، فإن بوتين كان واضحاً في موقفه، فهو يسعى فقط للقيام بما يصبّ في مصلحة روسيا، وذلك وفقاً لتقديراته (على عكس تلك الآراء من حكام الغرب الليبرالي).

لقد انتهى الموقف العسكري للبلد الاستثنائي مع تفكك الاتحاد السوفييتي وتلاشي تعهداته والتزاماته في الخارج، فلم يعد حلف وارسو مرتبطاً بالنشر الأمامي للجيوش السوفييتية ولم يعد هناك مستشارون في فيتنام أو موزامبيق، في حين لا زالت الولايات المتحدة الاستثنائية تتخيّل أنها تنشر الحرية والديمقراطية وتمنع الحرب وتدعو إلى الاستقرار، فهي تمتلك قواعد في كل مكان وتعتقد أنه يتعيّن عليها حماية “حرية الملاحة” من وإلى الصين في بحر الصين الجنوبي، وهي لم تتعظ بعد من كل الدروس والشواهد التي تحصل في العالم. لقد أوضح بوتين وشركاؤه أن روسيا ليس لها أية نوايا أو مطامع، وأن الجيش هو لحماية روسيا فقط، لأنهم يدركون ما تعنيه القوات المسلحة الروسية والواجب الملقى على عاتقها والذي هو أكبر وأسمى بكثير من الدخول في مقارنات ومنافسات ندية مع الجيش الأمريكي من حيث الحجم والعدد، فالواجب الحقيقي يكمن في هزيمة ندّه والتصدي له، يمكن للقوات الجوية الأمريكية أن تحلق في أي مكان ولكن ليس في المجال الجوي لروسيا، يمكن أن تذهب البحرية الأمريكية إلى أي مكان ولكن ليس في مياه روسيا، إنه أمرٌ في غاية البساطة بالنسبة لروسيا كما أن تكلفته أقل بكثير، إنه بسيط لأن ما يحتاجه هو مجرد التخطيط والتنفيذ، بينما يتعيّن على المُخطط الاستثنائي/التدخلي التخطيط لكل شيء، أما القومي فيتعيّن عليه أمرٌ واحدٌ فقط وهو دراسة العدو ومعرفة نقاط ضعفه على نحوٍ بديهي، ومن ثم التغلّب عليه، فكلا الطرفين يمتلك القوة العسكرية والتفوق الجوي والاتصالات المضمونة الموثوقة، غير أنه ليس شرطاً ضرورياً أن تتساوى روسيا أو تتفوق على الجيش الأمريكي في جميع المجالات. إن أسلحة الدفاع الجوي الشاملة والمتشابكة لروسيا معروفة جيداً وتحظى باحترام كبير فهي تغطي طيفاً من الدفاعات ضد الصواريخ الباليستية وصواريخ (آر بي في) الصغيرة وحتى مجموعات الصواريخ/الرادار المعقدة ومنظومات الدفاع الجوي المحمولة، فجميعنا بات يسمع جنرالات الولايات المتحدة يشتكون من قوة الدفاع الجوي الروسي الذي يعتبر كالمظلة التي تحمي أجواء البلاد، فهو الأكثر تطوراً وقوة في العالم على الإطلاق باعترافٍ من الأمريكيين  أنفسهم، ولدى روسيا أقوى نظام دفاع جوي متعدّد المستويات مع العديد من المجمعات بعيدة المدى ومتوسطة المدى وقصيرة المدى التي تمّ تطويرها بشكلٍ كبير بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والتي نجحت في التصدي للطيران في جميع أنحاء العالم.

إن مناورات فوستوك الأخيرة التي أجرتها روسيا على حدود أوروبا الغربية أظهرت لحلف شمال الأطلسي أن المجال الجوي الروسي “حقل ألغام حقيقي” لا يمكن تخطيه ولا حتى الدخول إليه، إضافة إلى تفوق الدفاع الجوي الروسي على الأمريكي في ثلاثة مجالات عسكرية رئيسية، وهي في مجال خلق مجالات دفاعية رادعة بمساعدة أنظمة الصواريخ (مفهوم الردع) (A2AD) وفي القتال العام وكذلك في الحرب “السيبرانية” أي الحرب الإلكترونية، فعندما قام الرئيس بوش بسحب الولايات المتحدة الأمريكية من معاهدة الحدّ من انتشار الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية في عام 2001 لم يكن يتوقع ردّة فعل بوتين وكيف سيكون ردّه، فقد حذر بوتين من أن تؤدي الخطوة الأمريكية إلى إطلاق سباق تسلح نووي جديد، لكن روسيا سارعت منذ ذلك الحين إلى العمل على تطوير منظومتها الدفاعية وسعت إلى امتلاك أسلحة جديدة وفريدة من نوعها على مستوى العالم  ومنها سلاح من طراز ICBM وهي عبارة عن صواريخ بالستية عابرة للقارات تفوق سرعة الصوت (الهايبر سونيك) القادرة على المناورة وعلى أن تكون هدفاً غير محتمل لمعظم أنظمة الدفاع الصاروخي، فضلاً عن كونها وسيلة مناسبة لزيادة القدرة على ضرب الذخيرة النووية والتقليدية على المدى البعيد، بحيث لا توجد وسيلة للحماية من هذه الأسلحة، ما زاد من إمكانات الجيش الروسي وعزّز من توازن القوى بين الجيشين الأكبر في العالم، إضافة إلى صاروخ كروز يعمل بالطاقة النووية مع وقت طيران هائل، وصاروخ كروز مماثل تحت الماء لا يستطيع أي دفاع إيقافه، علاوةً على ذلك صاروخ مضاد للسفن تفوق سرعته سرعة الصوت سيضمن بقاء البحرية الأمريكية خارج المياه الروسية.

وللتعامل مع قوات الجيش الأمريكي البرية في أوروبا والتي تدعمها قوات الناتو  بمساعدة  قوات أخرى غير فعّالة، أعادت روسيا إنشاء جيش الحرس الأول للدبابات لتكون نداً للولايات المتحدة، ضاعفت روسيا من طموحاتها في تحدي الولايات المتحدة بالعمل على استخدام أنظمة الكمبيوتر حتى يمكنها لاحقاً مهاجمة موارد القوات المسلحة الأمريكية بأسلحة الطاقة الموجهة، وهي قدرات استطاعت الصين تطويرها في السنوات الأخيرة وحصلت على استنساخ عينات من المعدات العسكرية من مختلف الدول وطورتها بمستوى تكنولوجي عالٍ للغاية، وأصبح لديها بالفعل الصحون الطائرة، وهي الطريقة نفسها التي استطاعت فيها النجاح في تجاوز أمريكا في صناعة الطائرات من دون طيار، لتتفوق عليها روسيا بطائرات الجيل الخامس، وفي المحصلة كان من نصيب القوات الجوية الأمريكية عدم حصولها على تصريح دخول مجاني واتصالات مريبة وغامضة، هجوم بري مهزوم ولا دفاع ضد الأسلحة النووية الروسية، هذا ما كان من نصيب الولايات المتحدة وهذا كافٍ بالنسبة لروسيا.

هذه هي النديّة التي تعامل فيها موسكو ندّها الأمريكي، فهي تنفق أموالاً أقل بكثير مما ينفقه لأنها تدرس نقاط القوة التي يمتلكها وتقوم بمعالجتها بحكمةٍ وحنكة (بقرارات ذكية)، استشعرت واشنطن  خطر القوة العسكرية لروسيا لكنها قصيرة النظر ولا تستطيع سوى رؤية انعكاسها في المرآة لأنها عاجزة عن فهم المعادلة الصعبة، فعندما تعرف عدوك جيداً وفي الوقت نفسه تعرف نفسك، عندها لا داعي للخوف من خوض مئات المعارك، ولكن إذا كنت تعرف نفسك وتجهل خصمك فوقتها سيكون مقابل كل انتصار تحرزه هزيمة، لكن إذا كنت تجهل العدو وتجهل نفسك فإنك ستهزم في كل معركة.