دراساتصحيفة البعث

كيف سيتعامل جونسون مع البريكست؟!!

عناية ناصر

لدى بريطانيا في الوقت الحالي تمديد للمادة 50 (المادة المتعلقة بمغادرة الاتحاد الأوروبي) حتى 31 تشرين الأول، وكان بوريس جونسون تعهد بمغادرة الاتحاد الأوروبي بحلول ذلك التاريخ، بسبب أن نتيجة الاستفتاء الذي طُلب من خلاله من الناخبين أن يقرروا المغادرة أو البقاء كانت موافقة الأغلبية على المغادرة، وتم قبول هذه النتيجة من قبل الحزبين الرئيسيين وفي سياساتهما الانتخابية اللاحقة. كما وافق برلمان المملكة المتحدة على تفعيل المادة 50 من “دستور الاتحاد الأوروبي” والتي منحت المملكة المتحدة السلطة القانونية للمغادرة.

إن عدم المغادرة من شأنه أن يقوض مصداقية ليس حزب المحافظين الحاكم فقط، بل والعملية الديمقراطية برمتها في المملكة المتحدة أيضاً. لقد تم رفض اتفاقية الانسحاب التي وافقت عليها تيريزا ماي مع الاتحاد الأوروبي ثلاث مرات من قبل البرلمان. هذه الاتفاقية التي تربط في شكلها الحالي المملكة المتحدة بالاتحاد الأوروبي قانونياً بدون أي اعتماد لأي قانون بريطاني يُسن، وحتى المقترحات الخاصة بالاتفاقيات الجديدة من قبل مجموعات مختلفة من نواب البرلمان لم تحظى بالأغلبية. لقد ألزم بوريس جونسون نفسه بإعادة التفاوض أو المضي قدماً حتى دون اتفاقية للانسحاب.

ما هي خياراته إذن؟

أولاً، قد يتقدم الاتحاد الأوروبي كبادرة حسن نية ببعض التعديلات على مقترحاته السابقة، المتعلقة باتفاقية الانسحاب، ولكن من غير المرجح أن يقدم الاتحاد الأوروبي أي تنازلات كبيرة. في السابق حاولت تيريزا ماي وديفيد كاميرون باستمرار الحصول على تنازلات من الاتحاد الأوروبي دون نجاح. وكبادرة حسن نية من قبل الحكومة البريطانية الجديدة ، قد تُقدم بعض الاقتراحات البسيطة. على سبيل المثال، هناك حدود للزمن الذي يمكن لبريطانيا أن تغادر فيه الاتحاد الأوروبي دون اتفاق على الحدود البريطانية / الأيرلندية مع الاتحاد الأوروبي في جمهورية إيرلندا.
لكن لن تكون اتفاقيات الحد الأدنى من هذا القبيل مرضية للغاية لأنها سوف تبقي المملكة المتحدة في الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة لسنوات عديدة، و لن يحصل هذا على دعم من عدد كبير من نواب المحافظين، والأهم من ذلك، لن يقدم خروجاً حقيقياً من الاتحاد الأوروبي، لذلك سيعاني المحافظون انتخابياً في المستقبل ما لم يكن هناك تغيير كبير في السياسة من جانب الاتحاد الأوروبي، فإن أي اتفاقية انسحاب معدلة غير مرجحة.

أما الخيار الثاني، يتعين على جونسون عندئذ أن يبذل قصارى جهده وفقاً لمنصبه الجديد أي ترك الاتحاد الأوروبي بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية لتنظيم العلاقات التجارية مع الاتحاد الأوروبي.ولكن أي قواعد لمنظمة التجارة العالمية؟
إن أفضل وضع لجونسون هو الحصول على اتفاق بموجب المادة 24 من منظمة التجارة العالمية. سيتطلب ذلك من الجانبين مواصلة التجارة الخالية من الرسوم أثناء التفاوض على اتفاقية تجارة حرة كاملة، وسيكون لمثل هذا المسار جاذبية كبيرة، حيث سيقلل من الاضطراب، لأن العقود التجارية الحالية سوف ترضي كلاً من التجار والمستهلكين، خاصةً أن الاتحاد الأوروبي يتمتع بميزان تجاري إيجابي كبير مع المملكة المتحدة، وبالتالي فإن تجارها وموظفيها سيكسبون، وسيكون عملاء المملكة المتحدة راضين، و سيكون تعديل هذا الموقف هو الانتقال إلى اتفاق انتقائي – بما في ذلك السيارات ، على سبيل المثال باستثناء الأغذية.

إن من المشكوك به أن يوافق الاتحاد الأوروبي على ذلك، ففي حين أن تُجاره قد يكسبون، إلاّ أن الاتحاد الأوروبي كمؤسسة سيكون أضعف بكثير،  وسيكون هناك سوق واحدة لكن المملكة المتحدة لن تتحمل أي التزامات تجاه الدول الأعضاء الأخرى ويمكن للتجار في المملكة المتحدة إبرام المزيد من الصفقات المواتية مع أطراف ثالثة، وبالتالي لن يحصل الاتحاد الأوروبي على أي مساهمة مالية من المملكة المتحدة.

من الناحية التجارية، تفضل المملكة المتحدة ذلك ، حيث ستتمكن المملكة المتحدة من التفاوض على اتفاقيات تجارية أخرى مع أطراف ثالثة ، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والهند والصين وروسيا، وسيستمر الاعتراف بالمعايير الحالية المتعلقة بمحتوى السلع والخدمات. المشكلة هنا ليست في المملكة المتحدة ، ولكن ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيقبل الصفقة لأنها ستكون مواتية للغاية للمملكة المتحدة، خاصةً أن ذلك سيضعف الأهداف السياسية والجيوسياسية للاتحاد الأوروبي.

وهنا يبرز الاحتمال الثالث، الاحتمال الذي تترك المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي دون اتفاق انسحاب ما يشار إليه غالباً باسم “لا اتفاق”. تهديد الخروج “دون اتفاق” هو في الوقت الحالي الخوف الرئيسي لخصوم جونسون ، ليس فقط في حزب المحافظين ولكن أيضاً لدى الغالبية الساحقة من الديمقراطيين الليبراليين وأعضاء البرلمان من حزب العمال، لأن هذا يضع بوريس جونسون في موقف صعب للغاية في البرلمان، حيث يفتقر إلى دعم الأغلبية، خاصةً أن المعارضة هنا تتألف بشكل أساسي من أولئك الذين لا يريدون مغادرة الاتحاد الأوروبي في المقام الأول. وهنا تشير  مجموعة من الشخصيات البارزة من أمثال توني بلير إلى جون ميجور والشخصيات البارزة في الاتحاد الأوروبي والبنوك الكبرى وصندوق النقد الدولي باستمرار إلى صفقة “لا اتفاق” على أنها كارثة خاصةً أن التكتيكات البرلمانية الحالية لأولئك الذين يرغبون في البقاء هي إيقاف حكومة جونسون عن الخروج دون “اتفاق”.
سيسمح قانون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي (2018) للمملكة المتحدة بالمغادرة في حالة عدم وجود اتفاقية أخرى مع الاتحاد الأوروبي، لكن لا يمكن منع ذلك إلا إذا أقر البرلمان تصويتاً بحجب الثقة عن الحكومة، ما سيؤدي إلى انتخابات أخرى. وفيما يتعلق بالواقع السياسي، من غير المرجح أن يمر هذا ، فأعضاء حزب المحافظين يجب أن يدعموا الاقتراح وبالتالي فإن الكثيرين سيفقدون مقاعدهم. ومع ذلك ، يمكن أن تكون السياسة في بعض الأحيان غير عقلانية وتؤدي إلى ما هو غير متوقع. على سبيل المثال ، فكما استطاع غورباتشوف تفكيك الحزب الشيوعي السوفييتي، فبإمكان أعضاء النخبة السياسية في المملكة المتحدة حل حزب المحافظين البريطاني، لكن الافتراض أن تظل العقلانية السياسية قائمة ، وإذا كان الأمر كذلك ، فما مدى الضرر الذي سيلحق بجونسون بـ “لا اتفاق”؟.

أولاً ، لا يوجد شيء مثل “لا اتفاق” إذ ستوفر لوائح منظمة التجارة العالمية أساساً للتعامل بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي،  وهناك بالفعل اتفاقيات معمول بها لتسهيل مجموعة واسعة من الأنشطة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، مثل السفر الجوي وتبادل الطلاب والقضايا الأمنية والاعتراف بالجنسية. لكن ما لا شك فيه أن ذلك سيمتد لصالح كلا الجانبين بعد خروج المملكة المتحدة، و قد تتطلب مثل هذه الاتفاقات تمديداً  بسيطاً للمادة 50 للسماح بإبرام الوثائق، وهنا يمكن توقع بعض الاضطرابات خلال الأشهر الستة الأولى، وقد تتضرر بعض الصادرات البريطانية بشدة  مثل تصدير الخراف إلى الاتحاد الأوروبي ، لكن حكومة المملكة المتحدة ، التي لم تعد لها مساهمة كبيرة جداً في الاتحاد الأوروبي ، يمكن أن تتحمل دعم مربي الأغنام في المملكة المتحدة. إن الخروج دون اتفاق سيكون له آثار سلبية أقل بكثير من حجم تفكك الاتحاد السوفيتي، ولن يكون الأمر أشبه بالانقطاع الذي حدث بين الاتحاد الروسي وأوكرانيا بعد اتفاق الشراكة الأخير مع الاتحاد الأوروبي.

ثانياً، من غير المرجح أن تكون الآثار الاقتصادية المفترضة على المدى الطويل ضارة، حيث تم من قبل  التغلب على “الكوارث” التي سبق التنبؤ بها مثل مغادرة المملكة المتحدة لآلية سعر الصرف الأوروبي، وعدم الانضمام إلى اليورو، والتصويت لمغادرة الاتحاد الأوروبي، وحينها كانت البيانات الرسمية سلبية بشكل غير ملائم حول مستقبل المملكة المتحدة. لذلك سيكون هناك بالتأكيد بعض الخسارة على المدى القصير في التجارة ، لكن من غير المرجح في رأي الكثيرين أن تعاني صادرات المملكة المتحدة على المدى الطويل، كما ستنخفض تكاليف السلع في المملكة المتحدة بالقيمة الحقيقية حيث أن الجنيه سوف ينخفض ​​مقابل اليورو وسيكسب من التجارة مع الأسواق الأخرى (الكومنولث ، الصين ، أمريكا اللاتينية ، الهند).

على افتراض أن بريطانيا ستغادر في 31 تشرين الأول دون أي اتفاقية انسحاب أخرى ، يجب على بوريس جونسون أن يحافظ على هدوء أعصابه، فعلى المدى القصير سيكون للخروج آثار سلبية ولكن لن تكون كارثية، و ستستمر معظم الأشياء كما هو الحال في الوقت الحاضر، وربما يكون هناك فوائد اقتصادية وسياسية على المدى الطويل.