دراساتصحيفة البعث

أعياد سلتية بتقويم فلسطيني سوري

عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين

من الطريف القول: إنه ما من لفظة في العالم تعبّر عن مفهوم العيد مثل كلمة العيد العربية –إيدو / إيتو السلتية. ومع ذلك، من المحتمل أن نجد كثيراً من العرب ممّن لو سئلوا عن مفهوم العيد، سيبدو الأمر بالنسبة لهم غامضاً، رغم أن هذا المعنى متضمن في عبارات التهنئة التي يتبادلونها مثل “أعاده الله عليكم بالصحة والسعادة”، فالعيد إعادة لدورة الزمن المتمثلة بسنة كاملة.
حول مفهوم العيد يقول مرسيا إلياد في “رمزية الطقس والأسطورة” إنه بالنسبة للإنسان الديني من الثقافات القديمة، يتجدد العالم سنوياً. بعبارة أخرى يستعيد كل سنة جديدة قداسته الأصلية، التي كانت له عندما خرج من يدي الخالق. وهذه الرمزية نجدها ظاهرة بوضوح في البنية المعمارية للمحارم القدسية، لأن المعبد هو في الوقت نفسه المكان المقدس بامتياز وصورة العالم، يقدس الكون كله ويقدس الحياة الكونية أيضاً. وقد كان الإنسان القديم يتخيل هذه الحياة الكونية على هيئة مسار دائري، متواحد مع السنة. وكانت السنة دائرة مغلقة. كان لها بداية وكان لها نهاية. لكن كان لها أيضاً هذه الخصوصية التي تستطيع بواسطتها أن “تولد ثانية” في هيئة سنة جديدة. مع كل سنة جديدة يظهر إلى الوجود زمان جديد طاهر قدس من حيث أنه لم يستعمل بعد.
ولا شك أن الوصف الذي يقدمه إلياد وإن انطبق على العديد من الممارسات الدينية قديماً وحديثاً، إلا أنه يتجلى بأبرز صوره في عيد الأضحى عند المسلمين وما يواكبه من طقوس الحج والتضحية والطواف. ومن هنا فقد أعطي اسم “العيد الكبير” تمييزاً له عن عيد الفطر الذي يلي شهر التكفير والتطهير بالصوم والذي يحمل اسم العيد الصغير.
واضح هنا أن السنة بالمدلول الديني لا تتطابق بالضرورة مع السنة بمدلول التقويم. ونحن لا نملك معلومات متكاملة حول الأعياد التي كانت سائدة في بلاد الشام قديماً، وإن كان بالوسع استخلاص بعض المعلومات من خلال الموروث السلتي.
أوجد السلت تقويماً لأعياد أساسية، مجزئين السنة إلى أربعة أجزاء أساسية، كل منها كان مسبوقاً باحتفالات دينية عظيمة مكرّسة لإله، أو بطل، أو ذكرى أسطورية. تلك الاحتفالات كانت مصحوبة مع ألعاب، وأسواق، ومباريات، ورياضات، وعربدات، وكذلك احتفالات دينية، وفي الأزمنة القديمة أضحيات.
هذا الوصف بطبيعة الحال يذكرنا بتلك الممارسات التي كان الفلسطينيون بشكل خاص يقومون بها في موسم النبي موسى والنبي روبين والخضر وأربعاء أيوب وغيرها. فقد كان معظمها مصحوباً بالفعل بتلك الأشكال من الأنشطة التي يمارسها السلت. لكن العلاقة بين الأعياد السلتية والممارسات الفلسطينية المشابهة لا تقف عند هذا الحد، بل تبدو علاقة عضوية ثابتة ومستمرة رغم غياب الكثير من المفاهيم المتعلقة بها عبر الزمن.

العيد الأول
كان القسم الأول من السنة التقويمية عند السلت يبدأ في 1 شباط، وكان يسمى إمبولك أو Oilmelg . وكان في الأزمنة القديمة مقدساً للآلهة بريجيد أو بريجانتيا {البراقة}. ولكنه أخذ مؤخراً بصورتها المتنصرة: القديسة بريجيد. وأصل الإمبولك نوعاً ما غامض، ولكن يجري التفكير غالباً بوجود صلات رعوية له مع مجيء الحليب إلى ضروع النعاج {العواسEwes}. وكانت بريجيد في مشهدها كآلهة للخصب آلهة للرعاة، وهي تميز غالباً كآلهة حاضنة للجميع، وتكرم عندئذ بطرق كثيرة. وهناك من يرى بأن إمبولك هو عيد التطهير في نهاية الشتاء، وأنه ثبت بصعوبة، وأنه ليس سوى سمات من مفكرة أثرية قديمة. وقد عوض عنه بعيد مسيحي للقديسة بريجيد بعد أن ألحق بعيد حاملي الشموع {القناديل Chandeleur}، وإن حجم الفلكلور الايرلندي الحديث المحدد لهذا التاريخ والممحور نحو القديسة ضخم جداً. يقول الواقع: إن اسم بريجيد {البراقة} كأسماء عشتار وكيردوين ودانة وأفروديت وإيزيس {العزى} واللات وغيرهن، قد اختفت دلالته الدينية وطواه النسيان. ولكن هذا الاسم لم يختف من الجغرافيا وخاصة في بلاد الشام. وإذا كان السلت قد اعتمدوا يوم 1 شباط لعيد الإمبولك، فإن هذا اليوم حالياً مثلما هو مكرس في أوروبا للقديسة بريجيد، فإنه يصادف في تقويمنا أول خمسينية الشتاء، كما يصادف “سعد الذابح”. هنا سنكتشف أن أجدادنا ورثوا عن السلت مثل هذا الاحتفال.

العيد الثاني
إن العيد السلتي الثاني، والذي يتخذ زمنه 1 أيار كان البلطين أو كتشامين والذي يحمل اسم الإله القديم بيلي {السيد}. وأيضاً، استناداً لبعض الآراء، فإنه يترجم بصيغة بل- تين “النار الطيبة”. وككل الأعياد، فإن له صلات بالخصوبة وجذور سحرية لتشجيع النمو للقطيع والمحاصيل. وكانت النيران الطيبة تُشعل، وأحياناً تساق خلالها القطعان لغرض التطهير. وما زال يحتفل بالبلطين في أجزاء من مرتفعات اسكوتلندا حتى اليوم. وهناك من يرى أن البلطين يقع في الفصل المنير، وهو عيد الإله لوغ بمظهره المضيء. وحسب النصوص، فهو يسجل الاجتماعات الكبرى للكهنة، حيث يحيون الاحتفالات النارية الكبرى. ونحن نجهل اسم هذا العيد في السلت القارية، غير أنه كان يتم إحياؤه شعبياً في ذكرى أول أيار المنتشرة في جميع أنحاء أوروبا، أو على الأقل في أوروبا الغربية التي تعزى جذورها للسلت. وقد تحول هذا العيد عالمياً إلى عيد العمال العالمي.
وفي بلادنا، وإن فقد العيد الأصلي مظاهره ومفاهيمه، إلا أن الممارسة العملية فيه، وهي لفح بواكير المحصول بالنار، وأكله جماعياً أو توزيعه على الجوار تحت اسم “القلية”، وهي ظاهرة تطبق على القمح والعدس والحمص خاصة، تعتبر من العادات السنوية الثابتة.
ويلاحظ أن عيد الخضر في بلادنا يحتفل به يوم 6 أيار. ولعل هذا الموعد اختير لسبب أو لآخر بديلا ليوم 1 أيار السلتي، ولكن مع انطباق المفهوم. وهذا ما يحفزنا على التوقف عند مفهوم هذا العيد الذي يبدو أن الخضر قد حل فيه محل بيلي أو تموز أو أدونيس أو بعل أو محلهم جميعاً.
الخضر في رأي بعض رجال الدين وكثير من أصحاب الطرق الصوفية هو أحد الأنبياء، بينما يشط آخرون في ذلك، في حين أن هناك حديثاً نبوياً يمكنه بعد إثبات صحة نسبته إلى النبي محمد من وضع حد لمثل هذه المزاعم، ومفاده “لو كان الخضر حياً لزارني”. ويعتقد أنه سمّي بالخضر “لأنه ما من مكان يحل به إلا ويعتريه الإخضرار”. وعند بعضهم أن الخضر هو “جرجيس”. ويقول الطبري: إن جرجيس فيما ذكر كان “عبداً صالحاً من أهل فلسطين ممّن أدرك بقايا من حواريي عيسى بن مريم، وكان تاجراً يكسب بتجارته”. ويقال بأن الخضر هو إلياس النبي، ويعتقد بأن الخضر هو أيضاً القديس جاورجيوس، وهو فلسطيني ولد في اللد وقضى في ربوعها أجمل سني الطفولة. وكان أبواه مسيحيين من كبار اللديين غنى وشرفاً، ويحتلان فيها منزلة مرموقة. وربما عرفه المسيحيون أيضاً باسم مار جريس كما عرفوه باسم مار جرجس. وفي الوسط الشعبي الفلسطيني يعتقد الناس بأن الخضر هو واحد من أشهر الأولياء الذين يستغاث بهم في فلسطين. ويقال: إنه نجح في الوصول إلى “نبع الشباب”، وقد وجد الخضر النبع وشرب من مائه، ولذلك فهو خالد لا يموت.
ودون التوسع في عرض ما يقال عن هذه الشخصية، من الواضح أن الخضر اختصرت في شخصيته معظم صفات آلهة السلت بدءاً من اللود {النود}، ولعله الأصل في تسمية مدينة اللد. ولنلاحظ كيف أن عيد الخضر يوصف أيضاً بعيد اللد، وصولاً إلى أنقوص عوج، وخاصة تلك السمات الهرمزية، كما يلاحظ أن صفات اليرومانانان واضحة تماماً في شخصيته المركبة، والتي استهدفت على ما يبدو توحيد المعتقدات القديمة في شخصية رجل صالح يجمع صفات تلك الآلهة التي اعتقد بها الناس في الماضي.

العيد الثالث
كان العيد الثالث عند السلت هو لوغناسا، أو لوغواساد. ويحتفل به في 1 آب. وكان بالضرورة عيداً للأراضي معنياً بحصاد المحاصيل أكثر مما هو للاقتصاد الرعوي. وكما يفهم من الاسم، فقد كان عيد لوغ، بينما كان يشار إليه في إيرلندا أحياناً على أنه أسف تروغين{ BronTrogain}. وكان متحداً أيضاً مع آلهتين إيرلنديتين قويتين. وثمة رأي يقول: إن هذا العيد هو عيد الإله لوغ بمظهره الملكي. وهو عيد الملك موزع الغنى – الموازن – المنظم. كما أنه عيد الخريف والغلال. وقد تميّز بالألعاب – المباريات – الجري – والاجتماعات الشرعية والقانونية. وله كمثيل اجتماع الغاليين أو الجمعية الغالية في ليون المستترة عن السياسة الرومانية لصالح ممارسة العبادة الامبراطورية. وأصبح لوغناساد في الفولكلور الايرلندي عيداً زراعيا بقوة الأشياء{ بعد أن خسر السمات السياسية والدينية}. ولا تتوفر لدينا معطيات دقيقة توضح أصولا لهذا العيد في فلسطين باستثناء أن فترة هذا العيد تشهد انتقال الكثير من العائلات إلى الكروم للإقامة في أكواخ حيث يتم الجمع بين التقييظ {التصييف} وبين قطاف الغلة من العنب والتين خاصة. وهي ظاهرة لا تزال قائمة في فلسطين حتى الآن.

العيد الرابع
أما العيد الرابع عند السلت، والذي يحدد البداية الفعلية للسنة السلتية وبداية الشتاء السلتي فكان سامين Samhain. وقد اعتبر عادة الأهم من الجميع. ومع أن يومه المحدد كان 1 تشرين 2 فقد كان يحتفل به تقليدياً من المساء السابق، حيث كان يعتقد أن الحجاب بين العالم كما نعرفه ونراه و”العالم الآخر” الذي فيه القوى فوق الطبيعية بات رقيقاً جداً، أو يمكن أن يسحب في لحظة. في السامين اقترن الداقدا تقليدياً مع الموريان إلهة الحرب، والتي كانت قواها النفسية مؤكدة في كل الاتجاهات المبكرة. وفي بعض أجزاء اسكوتلندا، فإنه في عيد السامين كانت الحزمة الأخيرة من القمح أو الشعير تقطع، وتلبس مع هندام امرأة تدعى الكارلين ، وهو اسم آخر للقايلة إيش. وعلى تلال معينة في الأراضي المرتفعة، توقد النيران الطيبة حيث يمكن لكل شخص أن يلقي فيها حجراً أبيض مع علامته أو علامتها عليه. والإخفاق في إيجاد ذلك الحجر بعد أن تخمد النيران يشير الى حظ سيئ للسنة القادمة. وبالنسبة للبعض فإن السامين يمثل رمزياً مأزق إله الشمس لوغ أو اليو الذي يكون في الفصل اللاحق تحت هيمنة قوى الظلام.

الخاتمة
إن عبارة “عيد” تدخل ضمن الاسم الذي يحدد أو يسمّي لحظة من الزمن المقدس المقابل للزمن الدنيوي. لهذا يتضمن العيد السلتي ما سبق أن دعوناه “الزمن المغلق” الذي تقع خلاله حلقة كاملة من الحوادث دون التطاول على الزمن الخارجي. ولأغلبية الروايات الايرلندية مركز زمني هو عيد السامين حتى لو لم يحمل أي دلالة عن تاريخ تقويمي، حيث يغطي الزمن المقدس حقبة معينة ومنضغطة بأي طريقة ومادية حسب الواقعة لكامل السنة، آو الـ 24 ساعة أو للأبد. فالأحداث تدخل سلسلة من تتابع الأيام التي تحدث من عيد إلى آخر وقد تندرج على العديد من الأعياد المتتالية. فعندئذ يلتصق مفهوم الزمن مع مفهوم العالم الآخر.
وهكذا يتضح لنا أن مفهوم العيد لا يمكن أن تعبر عنه بدقة إلا كلمة “عيد” العربية، بمعنى إعادة، وهي ترد بصيغة عيدو/ إيدو / إيتو عند السلت.
ويورد لوروا وغوينفارش ملاحظات عامة حول الأعياد الأربعة السلتية. وتقول أول هذه الملاحظات: إن التفاوت بين تاريخ الأعياد السلتية والبدء الفعلي للفصول في أوروبا الغربية يصل من ستة إلى سبعة أسابيع دون إمكان جعل الواقعة قابلة للتفسير بواسطة الأسباب المناخية الخاصة بإيرلندة.
وهذه الملاحظة بالغة الأهمية، ذلك أن الأعياد السلتية إنما تنطبق فعلياً على التقويم الزراعي والمناخي في فلسطين وبلاد الشام. وقد حافظت على التقويم الأصلي رغم اختلاف المناخ. وهذا ما يرجح أن السلت كانوا يحتفلون بهذه الأعياد قبل هجرتهم من وطنهم الأصلي إلى الغرب، وأنه كان لهم تقويم معتمد قبل هذه الهجرة، مما يكشف عن بعض ملامح الحضارة التي كانت قائمة في بلاد الشام في الألف الثالث قبل الميلاد.
الملاحظة الثانية هي توازن التقويم بالحقيقة على ثلاثة أعياد، منها العيد الثالث لوغواساد {حسب الإيرلندية الحديثة لوغناسا أي نساء اللوغ}. فهو في منتصف المسافة بين الاثنين الآخرين. ومن حيث الزمن، هو حقا عيد وسيط. كما أن عيد الملك نفسه وسيط بين الكهنة والرجال. فالكهنة يمثلون الآلهة، أما لوغ هنا فهو يمثل المملكة الكونية والبشرية بآن واحد وبشكل واضح. وثالثاً يتفرع من الاستنتاج السابق كون قطبي الزمن التقويمي هما سامين أول الشتاء وبلطين أول الصيف. فالتقويم الإيرلندي إذن يتضمن سنة واحدة بفصلين مختلفين: منير وحار – بارد ومظلم. وهذا يتوافق بنتيجة ذلك مع شعب من سكان الشمال. لكن الواقع أن المناخ الموصوف هو مناخ بلاد الشام الذي يبدأ فصله المطير في تشرين الثاني وفصله الجاف في أيار.
وأخيراً يقول لوروا وغويفارش: إن السمات الرئيسة والحديثة لهذا التقويم التي استحقت الاستمرار بوصفها قاسماً مشتركاً لجميع السلت بالاستناد إلى بعض المراسلات الواردة في تقويم كوليني، استمرت على زمنيها الأساسيين: أصبح عيد أول تشرين الثاني عيد جميع القديسين. وقد تبعه عيد الأموات {أصبحت السمة قوية، بصورة خاصة، في الفولكلور البريتوني مع الاعتقاد بالأنونِAnnoon الذين هم متوفون قد عادوا إلى بيوتهم هذه الليلة}. ثم يأتي عيد أول أيار المشار إليه في العديد من الوقائع الفولكلورية والذي انتهى للعمل به كعيد للعمال. والمهم في الأمر هو الإشارة بأن الاتصال والمراسلة القارية والجزيرية حول الأسماء انحصر بصامونيوس {أي سامين}، أما استخدام الأسماء الإيرلندية لتعيين الأعياد القارية، فيعدّ مفارقة وخطأ، وبالوقت نفسه من عدم الفطنة، لأن جميع الأعياد الغالية على الأرجح تحمل أسماء ليس لها أي علاقة مع التعابير الإيرلندية. لكننا لاحظنا كيف أن التعبيرات الغالية لها أيضاً أصولها الفلسطينية السورية، فكلمة جولة الغالية والعربية تماثل كلمة عيد في المعنى مثلما تماثل أيضاً كلمة feast بمعنى وليمة.