الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

حَكي

عبد الكريم النّاعم
– في آخر مكالمة معك على الهاتف، شعرتُ وكأنّك غير مُرتاح.. إحساسك صادق، والصوت بصمة خاصّة تُعطي تعبيرها، حين نترك له أن يكون كما هو دون أيّ تدخّل منّا، ولكنْ.. قلْ متى ارتاح عاقل في هذا الكون؟! ما يبدو لحظات ارتياح، في آنات مُتباعدة، يبدو وكأنّه طارئ على المشهَد.
– أليس في هذه المضامين شحنات عالية من اليأس؟
– اليأس لا، لأنّ اليائس يخرج من الحياة بطريقة ما، أمّا المشدود إلى الحياة فإنّه، بشكل ما، بصيغة ما، متمسّك بالحياة، ولعلّ أكثر ما يجذبه إليها أنّه يُراهن على أمل ما، والآمال – كما تعرف – كثيرة، وهي محتشدة بالأمنيات التي قد نُفصح عنها، وقد لا نُفصح، وقد تتحقّق وقد لا تتحقّق، وعلى صاحب المبدأ أن لاييأس، فاليأس موات، وأنْ يواجه المعطيات، الداخليّة والخارجيّة بكلّ طاقاته، فشرف المُتابعة لا يليق إلاّ بأصحابه.
– مَن يستمع إليك يظنّ أنّك لا تُعاني من شيء!
– الجماد، بحسب علمنا، وحده الذي لا يعاني من شيء، المعاناة جزء أساس في تكويننا، إذ متى كانت الحياة، بآفاقها العامّة والخاصّة، كما نريد؟!
– تكاد تضعني في حيرة، فأنت من جهة مُشرق، ومن الجهة الأخرى منطفئ
– وذلك أيضاً هو مظهَر من مظاهر حياتنا، ولكنْ.. قد يطغى الجانب المُنطفيء، لأسباب متعدّدة، فيحجب ما عداه، تماماً كالكسوف والخسوف. ذكّرتَني جملة للمرحومة أمي، فقد كانت تُصارحني في الكثير من الأمور، ومنها قولها: “يا ابني تمرّ عليّ لحظات لو كان بيدي أن أنزع رأسي وأُلقيه بعيدا لَفعلت”.
– لكأنّك ورثتَ هذا الشيء وراثة!
– ربّما، ما نرثه يأتي معنا كجزء من تكويننا، ولسنا نحن الذين نختاره.
– كرّرتَ لفظة “الاختيار” أكثر من مرّة، حتى ليظنّ مَن يسمعك أنّنا وُجِدْنا “مختارين”؟
– لن أدخل هذه الفضاءات الواسعة، في “الجبر” و”الاختيار” التي شغلت المتألّهين الصوفيّين وعلماء الكلام في الإسلام، وأخذتْ ما أخذت من جهود الفلاسفة عبر العصور، ولكنّني أتحدّث عما أستطيع اختياره، وهذا ما أعنيه، فأنا أستطيع أن أُقدم على عمل الخير، وأستطيع أن أقارف الشرّ، في حدود المحيط الذي يمكّنني من ذلك، فإذا كنتُ إنساناً حقّا فلماذا أختار الشر؟!
– أما ترى حجم الانحدارات الأخلاقيّة التي ضربت هذا المجتمع الذي عشنا شطراً مديداً فيه، وكنّا ذات مرحلة نظنّ أنّنا قيد أُنمُلة من قطاف الثّمر؟
– وهذا بعض ما يشيع ذلك القتام الداخليّ، فنحن أبناء ما اجتزناه من أعمار وتجارب، ولمّا لم نكن على الهامش، فقد ظلّت المُتون تثير الكثير من القلق والخوف، لاسيّما في هذه المرحلة البالغة الحرَج، إنْ على المستوى الفرديّ، أو على مستوى الأمّة، لدرجة أشعر فيها، حين أُجيل النّظر فيما حولي، وفي معظم المُجريات أشعر أنّني غريب، وأُعاني من ألم الغربة، وأنا بين أهلي وناسي وأصدقائي، تجلس فتشعر بأنّك مُغاير، وأنّ المُماسّات التي تلامسك، بشكل ما، لا أُنس فيها، ولا ماويّة، فأنت حاضر بجسدك، أمّا روحك، ونوازعك، وأحلامك، فهي ليست ممّا يعني الكثيرين من أبناء الأجيال التي نسمّيها صاعدة، وهكذا تتراكم طبقات الغربة طبَقا فوق طبق، اللباس، قصّة الشعر، الأغاني والموسيقا، هذه الفجوة تشبه هوّة كبيرة فاغرة أبعادها، ستحتاج إلى أجيال من العمل الجادّ، والخارق، للخروج من تلك الظلمات، سأعطيك شاهداً صغيراً، أكتب مقالاً سياسيّاً فكريّاً أُشير فيه إلى الأخطار المستجدة التي أفرزتْها المواجهة مع العدو الصهيوني الاحتلالي، فيحصد عدداً قليلا من الاعجابات والمشاركات، وأعتذر عن المعايدة الشخصيّة والردّ عليها على صفحات التواصل الاجتماعي فتحصد المئات من الاعجابات، أليس في هذا ما يجعل المرارة تطقّ؟! صدّقني لولا الأمل المعقود على قوّاتنا المسلّحة للعبور إلى مناطق الأمان، لكانت كلّ الجهات مُقفَلة، وعلى ما ستحقّقه من انتصار أبني الآمال العراض على الخروج من تلك الظلمات المُتراكبة..
aaalnaem@gmail.com