تحقيقاتصحيفة البعث

مع ارتفاع معدلاتها جرائم الاحتيال وإساءة الائتمان.. استغلال للثقة واصطياد للأحلام في غياب الثقافة القانونية

قد يظن البعض أن قيام شخص ما بتحرير سند أمانة، أو شيك بلا رصيد، أو عقد بيع قطعي، يشكّل ضامناً لحقوقهم تجاهه في حال عقد أية صفقات معه، لكنهم لم يعلموا أن البعض اتخذ من ذلك مهنة له للحصول على أموالهم، أحد المواطنين روى لنا أنه اشترى منزلاً في حي المزة 86، وقام بدفع ثلاثة أرباع الثمن، على أن يدفع بقية المبلغ أثناء تسليمه المنزل، وبعد أن تم إبرام عقد بذلك اكتشف لاحقاً أن المنزل تم بيعه لشخص آخر استلمه، وسكن فيه، وباعتبار هذا العقار مشاداً على أرض أملاك دولة (أنقاض) فلا يمكن الرجوع للسجل العقاري لإثبات أحقيته في ملكية المنزل، وهو حالياً يتابع دعواه في القضاء رغم عدم وجود أمل لديه في استعادة حقه لأن من احتال عليه ليست لديه أية عقارات أو سيارات يمكن الحجز والتنفيذ عليها حتى لو حكم له القضاء بذلك.

وهناك العديد من القصص الأخرى التي تحكي عن حالات الاحتيال التي تتم كقصة عصام الذي قام بتشغيل مبلغ مليون ليرة سورية لدى شخص يعمل بمكان عمله نفسه بعد أن وعده ذلك الشخص بفائدة قدرها 50 ألف ليرة سورية شهرياً، وحرر له عدة سندات أمانة كضمانة للمبلغ، وادعى له ذلك الشخص أن لديه محلات لتجارة الملابس، وفعلاً حصل على مبلغ 50 ألف ليرة سورية من ذاك الشخص بعد شهر من إيداع المبلغ لديه، ثم توقف ذلك الشخص عن الدفع له بحجة أنه بضائقة مالية، وبعد مدة اكتشف عصام أن ذاك الشخص جمع مبالغ مالية عالية من جميع زملائه بعد إغرائه لهم بالفوائد، ولدى انكشاف أمره من الجميع قال لهم “بلطوا البحر.. اسجنوني”، ويطول الحديث عن جرائم الاحتيال نظراً لأن هذا الجرم يطور أساليبه تبعاً لتطور الحياة، ونتساءل هنا: ما سبب انتشار هذه الظواهر؟، هل هي من صنع الأزمة، أم نتيجة تدني الثقافة القانونية، أم لقصور في البيئة التشريعية؟!.

يستغل قدراته

القاضي أنس الخطيب، رئيس محكمة بداية الجزاء التاسعة بدمشق، أوضح أن الشيك بلا رصيد لا يعد من طرق الاحتيال، رغم أن القانون السوري جعل عقوبة الجرمين واحدة، أما سندات الأمانة فقد تدخل في وسائل الاحتيال، وأن المحتال يعد أخطر من السارق لعدة أسباب، حيث إنه يأخذ مال الغير المنقول، وغير المنقول (كالعقارات، وأسهم الشركات)، بينما السارق لا يمكنه إلا أخذ المنقولات، كما أن المحتال يحصل على أموال الشخص برضاه، بينما السارق يأخذ مال الغير دون رضاه، والمحتال يخطط لجريمته بإتقان وخداع، وعلى المدى الطويل، بينما السارق غالباً يتصرف بسلوك لحظي، ويعتمد على النشاط الجسدي (كالتسلق، والقفز إلى منزل لسرقة مصاغ ذهبي، والخلع، والكسر)، كما أن المحتال يتصف بالذكاء ومعرفة القوانين بشكل جيد، وهو شخص ذو قدرات عالية، ولو استخدم قدراته بشكل إيجابي لحقق الفائدة في المجتمع، وضحاياه من الطبقة الواعية، والمثقفة، والمحنكة في المعاملات، ويمارس المحتال جرمه في المدن والمناطق الحضارية أكثر من الأرياف والمناطق النائية، بينما السارق ليس بالضرورة أن يكون ذكياً، أو ذا قدرات ذهنية معينة، أو متخصصاً، أو يمارس نشاطه بين أناس رفيعي المستوى، أو في مناطق راقية، كما أن المحتال غالباً لا يترك دليلاً خلفه، ويحاول السفر لمكان آخر بعد إنهاء صفقاته الاحتيالية، ومن جهة أخرى فإن المحتال يستغل أية  أزمات، أو حاجات تواجه الناس، ويبدل تخصصه ونشاطه لاستغلال تلك الظروف لصالحه أبشع استغلال، فمثلاً ينشط في ظل هذه الأزمة المحتالون الذين يدعون للمواطن أن بإمكانهم معرفة مصير الشخص الموقوف، أو المفقود، وإطلاق سراحه من خلال اللعب على وتر العاطفة، ويستغل المحتال أيضاً انخفاض الفائدة المصرفية التي تتراوح بين 7-10% كحد أعلى، فيدعي للناس أن بإمكانه تشغيل الأموال بفائدة تقارب 40-100%، كما أن المحتال غالباً ما يسيء للغير لأنه يستغل مثلاً الثقة الموجودة بين التجار وسندات الأمانة، وغيرها، أو يدعي أنه تاجر، أو من طرف تاجر،  كما يسيء للعلاقات الاجتماعية، فقد تجد شخصاً محتاجاً لمبلغ من المال، ولا أحد يقرضه أي مبلغ حتى لو بموجب سند أمانة بعد خوفهم من انتشار حالات الاحتيال في المجتمع، وفي سياق متصل فإن المحتال يسيء للدولة، ورموزها كالقضاة، أو الضباط، أو المسؤولين، عندما يدعي أنه أحد الأشخاص المذكورين آنفاً، أو يدعي كذباً بعلاقاته مع أولئك الأشخاص للاحتيال على الآخرين.

 

عقوبات قاسية

إن سند الأمانة مثلاً لا يشكّل ضمانة في حال عدم وجود أملاك، وأموال يمكن الحجز عليها في حال صدور حكم بحق المحتال، رغم أنه يضمن العقوبة بحق من حرر السند، تابع القاضي الخطيب، وهنا لا مجال للقول الشائع بأن القانون لا يحمي المغفلين، فالمحتال شخص اعتاد خداع المواطنين بطرق ملتوية، ولذلك فلا ينبغي أن يفلت من العقاب، وقد تشدد المشرع السوري في عقوبة جرم الاحتيال، حيث جعل حده الأدنى الحبس ثلاث سنوات، والأعلى خمس سنوات، ولا يمكن للمحكمة تخفيض الحد الأدنى للعقوبة حتى ليوم واحد من خلال منح الأسباب المخففة إلا في حال إزالة الضرر(كإعادة المبلغ المالي للمجني عليه، أو إسقاط الحق الشخصي من قبله)، كما أن القانون ساوى في العقوبة بين محاولة ارتكاب جريمة الاحتيال وارتكابها، فلا يشترط إتمام عملية الاحتيال بشكل كامل، ولكن يجب الانتباه إلى أنه إذا ترك شخص ما الغير يعتقد  خطأ بصفة ليست له، وتمكن من الحصول على المال، فلا يعد فعله احتيالاً.

 

عناية خاصة

تيسير الصمادي، معاون وزير العدل، أكد أن الأزمة التي مر بها القطر خلّفت جرائم لم تكن مألوفة في مجتمعنا من قبل كجرائم الابتزاز، والخطف مقابل الفدية، كما تزايدت بشكل ملحوظ أعداد بعض الجرائم كالاحتيال نتيجة استغلال هذه الأوضاع من بعض الأشخاص لنزع ملكية سيارات، أو عقارات الغير، أو أموالهم، وتكثر هذه الجرائم في المدن الآمنة التي نزحت إليها أعداد كبيرة من أهالي المناطق الساخنة، ويولي القضاء الاهتمام الأكبر بجرائم الاحتيال كونها من أخطر الجرائم التي تمس الثقة العامة، والثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع، والتي تحرص الدولة على إرسائها بشتى الوسائل، كما أن هذه الجريمة في بعض الأحيان تحدث بمبالغ ضخمة قد تسحب السيولة والكتلة المالية من الدولة بعد تهريبها إلى خارج القطر بدلاً من استثمارها في عمليات التنمية المزعومة، أما جرائم الشيك بلا رصيد فقد ازدادت مؤخراً بالرغم من رفع مدة عقوبتها بسبب انتشار البنوك الخاصة، والمشاريع الوهمية فارغة المحتوى التي ترتكز على جمع أموال ضخمة تفوق حجم المشروع المزمع إنشاؤه، وتوزع للمواطنين مبالغ مغرية على أنها أرباح من أموالهم التي قاموا بدفعها لصاحب المشروع الوهمي، ومن ثم يتفاجأ المواطنون بهروب هذا الشخص من القطر، وأكد الصمادي أن الوزارة تحرص على سرعة الفصل بالقضايا المتعلقة بالجرائم آنفة الذكر، لأن طول زمن الدعوى قد يؤخر أو يمنع تحصيل المبالغ التي حصل عليها الجاني، ولكن رغم جميع الإجراءات، والعقوبات القانونية المقررة لتلك الجرائم، فإن ذلك لا يردع البعض عن ارتكابها، فهناك أشخاص امتهنوا تحرير السندات، والشيكات غير آبهين مقابل حصولهم على أموال الغير، كما أن جامعي الأموال يصعب كشفهم وتطبيق القانون عليهم لأن إثبات هذه الجريمة، رغم أن عقوبتها جنائية تصل إلى 15 سنة “أشغال شاقة”، صعب كونها تحتاج 9 أشخاص مجني عليهم لتحريك الادعاء على جامعي الأموال، ومن جهة أخرى فقد أوضح الصمادي أن الجرائم الالكترونية برزت بشكل كبير في مجتمعنا مؤخراً، وقد حرصت الوزارة على مقاضاة مرتكبي هذه الجرائم بعد إثباتها من خلال تأهيل 64 قاضياً بالتعاون مع الأكاديمية العربية للعلوم الالكترونية، وذلك ليتمكنوا من متابعة مثل تلك الجرائم، وليتمكنوا أيضاً من تدريب أعداد من زملائهم على دراسة أدلة الجرائم الالكترونية، وإثباتها على أرض الواقع، كما أنشأت الوزارة محاكم على جميع المستويات، ونيابة عامة متخصصة بالجرائم الالكترونية، وذلك بهدف تعزيز الخبرة، وتأمين سرعة فصل هذه الدعاوى.

ضرورة التعقل

نصح القاضي أنس الخطيب المواطنين بالعقلانية، وعدم الانجرار وراء المظاهر، والتأكد من هوية الشخص الذين يشاركونه في أية صفقة،  فمثلاً  عندما يدعي شخص أنه تاجر كبير، وبإمكانه تشغيل المبالغ المالية بفائدة عالية تصل إلى 80% سنوياً، فعلينا سؤال أنفسنا: ماذا يعمل هذا التاجر لتحقيق مثل تلك الأرباح الخيالية التي تتنافى أصلاً مع مبادىء وقوانين التجارة، وطالما يحقق مثل ذلك الربح فلماذا يرغب بفائدتنا نحن بدلاً من إفادة نفسه، وحتى إن إعطانا الفائدة لعدة مرات، هل سيستمر في ذلك؟ وهل سيعيد لنا رأس المال حين الطلب؟ كما شدد القاضي الخطيب على ضرورة الاستشارة سواء للمحامين، أو للجهات المختصة، أو للقضاة، فأبواب القضاة مفتوحة للإجابة عن أي تساؤل يدور في بال المواطن، رغم ضغط العمل الشديد في المحاكم، كما أن هناك مجموعة إجراءات قد تمكن من كشف الشخص المحتال كالتقدم بطلب للقضاء يبيّن فيما إذا كان هناك شخص ما يود التعامل معه، وهو موقوف سابقاً، أو تقديم طلب للأمن الجنائي لبيان فيما إذا كان الشخص الذي نريد التعامل معه مطلوباً، ويجب أن ندقق هويته، والمستندات التي يبرزها أمامنا، وعدم الاكتفاء بكلامه، كما نصح القاضي الخطيب المواطنين الذين يملكون مبالغ مالية صغيرة بافتتاح مشاريع صغيرة، والعمل بأنفسهم بدلاً من تشغيلها مع الغير، والوقوع ضحية للاحتيال، كما توجه الخطيب للجهات المعنية بضرورة دعم المواطنين الراغبين بافتتاح مشاريع صغيرة، كون معظم رؤوس الأموال صغيرة ولم تعد كافية لافتتاح المشاريع.

بشار محي الدين المحمد