دراساتصحيفة البعث

إدلب أولاً

الدكتور سليم بركات

السؤال الذي يطرح نفسه: إلى أين يتجه الوضع بإدلب في ضوء استمرار المجموعات الإرهابية بالمراوغة بين التصعيد العسكري وبين وقف إطلاق النار؟، ومن ثم إلى أي مدى تراهن تركيا على  المجموعات الإرهابية في مناورتها مع روسيا للوصول إلى اتفاق جديد بديل عن اتفاق سوتشي، يخدم العلاقة الإستراتيجية بينها وبين هذه المجموعات التي ترفض التواجد الروسي في المنطقة؟.

تتعدّد الآراء في الإجابة عن هذا السؤال، وما يلحق به من أسئلة، منها ما يقول إن تركيا في وضع لا تُحسد عليه في تعاملها مع المجموعات الإرهابية، ولاسيما في مجال عرقلتها لتقدم الجيش العربي السوري بدعم روسي، ولمنع استكمال السيطرة السورية على مدينة إدلب، ومنها هل بقي من خيارٍ لتركيا بعد أن أصبح اتفاق سوتشي ملزماً لها في دعمها للمجموعات الإرهابية معنوياً ومادياً حتى في تنقل وخروج هذه المجموعات من المنطقة المنزوعة السلاح كما نصّ عليه الاتفاق؟.. ومنها إلى أين سيذهب الإرهابيون إذا أصرّوا على فرض شروطهم على تركيا فيما لو رفضت تركيا هذه الشروط؟، هل سيكون داخل تركيا أم يأخذون منها ممراً إلى مناطق أخرى، وبالتالي هل سيقبل الشعب التركي وقواه المعارضة سياسة أردوغان في هذا الاحتواء للإرهابيين؟!.

ما من شك في أن علاقة حميمية موجودة ما بين حزب أردوغان وهذه المجموعات الإرهابية المتواجدة في إدلب، وفي طليعتها “جبهة النصرة، وداعش، وكتائب السلطان مراد، وجيش العزة”، وغيرها من أبناء وأحفاد تنظيم “القاعدة”، بما فيها المجموعات الإسلاموية من تركستانية وشيشانية وأوزبيكية، وكيف لا تكون مثل هذه العلاقة وهذا الكوكتيل الإرهابي قد دخل إلى سورية من خلال تنسيقه مع السلطات التركية وبأوامر من قادتها السياسيين والأمنيين؟!.

لقاء أستانة الأخير تمخّض عنه ضرورة تنفيذ اتفاق سوتشي بين روسيا وتركيا  خلال الشهر الجاري، ولاحقاً سيكتمل خروج الإرهابيين من سورية، وبالتالي هل تستطيع تركيا التراجع عن هذا الاتفاق، ولاسيما أنه كان بناء على طلبها من روسيا ومن منطلق أنها تستطيع أن تحلّ المشكلات القائمة في منطقة إدلب سياسياً؟، لكن تركيا مازالت تناور، والأصح أنها تتاجر باتفاق سوتشي بغاية الوصول إلى مكتسبات سياسية، وهذا الأمر تعرفه روسيا جيداً وليس لديها أي شك بأن تركيا هي القادرة على الحوار مع كل المجموعات الإرهابية المتواجدة في إدلب دون استثناء، كيف لا تستطيع ذلك وهذه المجموعات الإرهابية قد مرّت عبر المخابرات التركية حتى وصلت إلى سورية، هذا إضافة إلى تسليحها وتجهيزها ودعمها حتى مالياً بإرادة تركية.

السؤال الذي يطرح نفسه أيضاً هو: ما سر عدم التزام المجموعات الإرهابية وفي طليعتها ما يُسمّى “جبهة النصرة” بقرار وقف إطلاق النار الذي وافق عليه الجيش العربي السوري وقواه الرديفة في الأول من شهر آب الجاري، وبالتالي لماذا صعّدت المجموعات الإرهابية هجماتها على المناطق الآمنة المحيطة بها، مما أدى إلى استئناف العمليات القتالية من قبل الجيش العربي السوري بمواجهة هذه المجموعات؟. وهل نجانب الحقيقة إذا قلنا ونحن نجيب عن هذا السؤال إن عدم الالتزام بعملية وقف إطلاق النار من قبل هذه المجموعات الإرهابية كان بناءً على أوامر تركية، حتى يتسنى لأردوغان التنصّل من اتفاق سوتشي الذي يتضمن إقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق من 15 إلى 20 كم تفصل بين مناطق سيطرة القوات السورية والمناطق التي تقع تحت سيطرة المجموعات الإرهابية، كما يتضمن إعادة فتح الحدود الدولية الإستراتيجية بين دمشق وحلب، وبين حلب واللاذقية، تنصّل يؤدي بدوره إلى المماطلة التركية في تنفيذ اتفاق سوتشي، وبالتالي التخلي عنه أيضاً!.

يبدو أن معركة إدلب غير متشابهة من حيث التكتيك مع المعارك الأخرى التي دارت بين بواسل الجيش العربي السوري والمجموعات الإرهابية على الأرض السورية طوال السنوات الماضية، نقول ذلك بعد أن شهدت إدلب في الفترة الأخيرة أشرس أنواع المعارك التي لا تعني المجموعات الإرهابية وحدها، وإنما تعني تركيا معها كونها تدعم هذه المجموعات قولاً وفعلاً، وربما كان المقصود من هذه الشراسة إطالة حسم المعركة تنفيذاً  للتنسيق الاستراتيجي القائم بين تركيا وأمريكا، وباقي حلفائهما في المنطقة في مواجهة سورية وباقي محور المقاومة، وهذا ما دفع أردوغان أثناء لقائه الأخير مع بوتين إلى البحث عن تعديل لاتفاق سوتشي 2018 لكنه لم يفلح بذلك.

ما من شك في أن تركيا تلقي بكل ثقلها في المعركة الدائرة في إدلب ما بين الجيش العربي السوري وما تبقى من المجموعات الإرهابية، دعم عسكري ولوجستي غير مسبوق لهذه المجموعات وعلى رأسها “جبهة النصرة” المصنّفة إرهابياً بقرار من مجلس الأمن الدولي، وهل نجانب الحقيقة إذا قلنا إن من أسباب هذا الدعم التركي غير المسبوق للمجموعات الإرهابية هو أن تركيا تعدّ محافظة إدلب مركزاً لنفوذها، وبالتالي فإن خسارتها لها ستعني نهاية طموحات أردوغان في السيطرة على جزء من شمالي سورية، كما تعني انتكاسة كبرى لتركيا في مساعيها لتقسيم سورية بحجة ضرب الأكراد الذين تعتبرهم كذباً ونفاقاً تهديداً لوجودها، بينما هي في حالة وفاق مع الكردية السياسية المتصهينة وبرعاية أمريكية، وهذا ما يؤكده سعي أردوغان في المرحلة الماضية إلى إيجاد حلّ مع روسيا يضمن له استمرار سيطرته على محافظة إدلب، بيد أن القيادة الروسية رفضت ذلك وأظهرت إصرارها على طرد المجموعات الإرهابية من سورية، لا بل طالبت بتسريع عودة إدلب لتصبح تحت سيطرة السيادة السورية بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

كل ما يمكن قوله إن معركة إدلب قد بدأت تتجه نحو الحسم، وعلى ما يبدو أن لغة البارود قد أصبحت هي الأقرب استخداماً في منطقة إدلب من اللغتين السياسية والدبلوماسية، ومن أجل هذا الحسم حشدت القوات السورية مع حلفائها كل مصادر القوة لاستعادة إدلب عسكرياً وهذه حقيقة وليست تكهناً، لأن إدلب بوجود مثل هذه المجموعات الإرهابية تمثل خنجراً مسموماً في قلب سورية لابد من انتزاعه كي تبدأ معارك الجزيرة السورية، لا لسبب إلا لسبب واحد وهو أن فرص السياسة قد انتهت وقضي الأمر في محافظة إدلب بعد أن أصبح اتفاق سوتشي في مهب المدافع وراجمات الصواريخ، ونظام أردوغان يدرك هذه الحقيقة كما يدرك أن الأسلحة المستريحة منذ فترة من الزمن آن لها أن تعمل من جديد وفق ما تراه القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة السورية.

بقي أن نقول إن معركة إدلب في طريقها إلى الحسم مع المجموعات الإرهابية رغم أنف خصوم سورية الإقليميين والدوليين، ومن تبعهم ممن يسمون أنفسهم معارضة سورية. إن المنطق يقول بعدم التفاتة القيادة السورية إلى الجزيرة السورية قبل الحسم في معركة إدلب، كما يقول أيضاً إن سورية لن تلتفت إلى نقاط المراقبة العسكرية التركية كعوائق، بل مجرد نقاط مؤقتة ستنسحب عند اقتراب الجيش العربي السوري منها، وإذا كان القضم الميداني التدريجي في إدلب تكتيك عسكري سوري فعّال تحكمه تسويات جزئية قد تحصل، فهذا يعني أن على المجموعات الإرهابية أن تنحني أمام الضربات للقوات العربية السورية قبل أن تصل هذه الضربات إليها.