الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

نوافذ 53

عبد الكريم النّاعم

1

في معرض الحديث، وأخْذا بكثير ممّا في التهكّم، قال أحد الجلساء: “حالتنا شبيهة بذلك الذي أضاع حماره، ثمّ وجده، ففرح!!.

قال مَن عتّقتْه التأمّلات: “الذي جعلك تُضيّع حمارك ثمّ تعثر عليه، لم يفعل ذلك عبثاً، بل هو يمنحك جُرعة فرح من قلب اللاشيء”.

همس جليس لمَن بجانبه وقال: “هل تنبّهت إلى أنّ الفرق كامن في النّظرة، وفي درجة الوعي.

2

على ورقة منسيّة منذ زمن نسيَه وجدَ الكتابة التالية: “الحسّ” غير “المعرفة”، وأنا هنا أتكلم عن عوالم الإنسان لا غير، الحوّاس، على تعدّد وظائفها الهامّة، كلّها جنود صالحة للتّزوّد، وللاستطلاع، وللالتقاط، وهي سبيل هامّ من سُبُل التدوين، إنْ على الورق، أو في الذاكرة، وتشكّل المهاد الأوّل لمَن يريد السّير.

الحسّ أثر الحواس، “المعرفة” ثمرة من ثمار القلب، والوجدان، والمناطق التي نسمّيها روحيّة.

الحسّ طفولة المعرفة، بداية المشي والتعلّم كيف نتوازن، وكيف نصل إلى نقطة ما،

الحسّ مايُلمَس، ما يُذاق، ما يُرى، ما يُشَمّ، ما يُسمع، أمّا(العرفان) فهو مايُعاش في الرّوح، وهو ابن المناطق التي مهما عبّرتَ عنها، وأجدتَ في التعبير، تظلّ تشعر أنّ ثمّة شيئا لم يُقل بعد، إنّه ابن تلك العوالم، ولعلّ علاقة الشعر الجميل بعوالم الصوفيّة تكون قد نبتت في هذه البقاع.

3

على ورقة أخرى قرأ: “لا تّتّجمّد عند زلاّتك، وارتكاباتك، وتجعل منها وثَناً،.. معبَدا للنّدب، بل غادرْها، وانْسَها، وتوجّه إلى المعبَد الذي هو بحجم الوجود، وتعبّدْ في محراب مافي الوجود من جمال وتناسق، ونظام مُدهش، يُشير إلى وحدانيّة الخالق، واملأ قلبَك بالحبّ، واجعل التّوبة قِبلتك، ونظّفْ نفسك من اليأس، والكِبر، والكراهية، وسيوافيك في تطوافك من يأخذ بيدك، فمِن أسماء الله الرحمن، والتوّاب، والعفوّ، والغفور”.

قال له الجليس الذي لا يكاد يُفارقه، والذي ربّما تلذّذ باتّخاذ المواقف التي لاتريحه: “ألا ترى أنّك قد انزلقت إلى مواقع جبْريّة، تكاد تقول هذا هو الكون، وعليك أن تقبله بما فيه”؟!!

أجابه: “لم أكن في يوم ما من أنصار هذه النظريّة، لأنّها في النّهاية تُنهي التّكليف، وتُصادر جدوى المقولة الوضيئة: “اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا”، أنا أدعو لِما قرأتَه، مع الإصرار على النّضال ضدّ كلّ أشكال الظلم، والاستعباد، والإفقار، وكلّ مايخدش كرامة الإنسان من لقمة الخبز، إلى أعلى الحاجات الإنسانية التي لايُعاش حقيقة إلاّ بها، وفي أوّل ذلك عدم الإكراه في المعتقد، استجابة لرحابة الآية الكريمة “لاإكراهَ في الدّين”، وأن يختار الإنسان الطريق التي يراها موصلة لرضى الله، دون أن يسعى لفرضها على أيّ آخر، فالمُعتقَد هو ما أُسأل عنه وحدي، ولن يدخل أحد في قبري غيري، أمّا التّعامل مع العباد، فهو ما سنُسأل عنه جميعا، ولذلك جعلت روح الرسالة المحمّديّة” إماطة الحجر عن الطريق”، لكي لا يعثر بها الآخرون.. جعلتْها صدقة، وكان محور ذلك كلّه مقولة: “ماينفع النّاس”، انتبه إلى مفردة “الناس”، فهي تشمل جميع الناس، على اختلاف ألوانهم وتعدّد معتقداتهم، وهذا يعني ضمنا أنّ كلّ مايضرّ الناس، أيّاَ كانت صيغته، هو خروج عن روح الرسالة السماويّة، وهنا تحضرني ياصديقي الجملة المعبّرة عن الاستيعاب، وعدم المصادرة، حيث جاء في التّنزيل على لسان نبيّ الرّحمة “لكمْ دينُكمْ ولي دين”، ولكنّ صلف تجّار قريش وكبراءها رفض إلاّ فرض الوثنيّة، بينما لم يدعُهم رسول الرحمة إلاّ بالكلمة، إلى الإيمان بالله عزّ وجلّ، دون فرض ولا إكراه، وأعتقد ياصديقي أنّ الطريق واضح لمَن أراد إتباعه، أمّا عبيد التبجّح، والاستعلاء، والسلب فليسوا من الرسالة في شيء.

aaalnaem@gmail.com