دراساتصحيفة البعث

نحـــن نـصـغي للأصـــوات الخــاطـئــة عـــن ســـــوريــة

ترجمة: البعث
عن موقع تروث ديغ 22/8/2019

ذات مرة، سافرت نائب هاواي تولسي غابارد إلى سورية، والتقت الرئيس بشار الأسد، واعتبرت حينها أن خطوات المصالحة التي يقوم بها الرئيس السوري خطوة مهمّة نحو السلام. لكن هذه الزيارة الجريئة تعرّضت للانتقاد على نطاق واسع، ووصل الأمر إلى تخوينها من قبل وسائل الدولة العميقة في أمريكا. تكرّر هذا الادعاء مرة أخرى مؤخراً على لسان السناتور كامالا هاريس المرشح الديمقراطي للرئاسة في كاليفورنيا.

كانت الهجمات على سجل غابارد ودعمها للحكومة السورية منتظمة من قبل الحمقى في الكونغرس، لكن بالنظر إلى الأحداث في سورية، يجب على المرء أن يستنتج أنها بالتأكيد كانت على حق طوال الوقت. في الآونة الأخيرة، ضغط الجيش العربي السوري على الإرهابيين في آخر معاقلهم الرئيسية في إدلب في شمال غرب البلاد، وحقّق إنجازات ميدانية كبيرة.
لسنوات، انتقد الغرب وشركاؤه من دول الخليج السياسة السورية، وباعوا شعوبهم الخيال، ولكن ماذا عن “جبهة النصرة”، و”داعش” الأكثر تطرفاً، ألا يشكلان تهديداً للولايات المتحدة؟ بالطبع هم كذلك. على الأقل، لم يشكل الرئيس الأسد تهديداً خطيراً للولايات المتحدة. وكما أوضح الصحفي ماكس بلومنتال في فصلين إضافيين من كتابه الأخير “إدارة الوحشية”، أمضت الولايات المتحدة و”شركاؤها الأوروبيون والعرب” معظم الحرب الوحشية في دعم الإرهابيين الأكثر تهديداً لأمريكا. وعلى هذا النحو، فإن التحالف الخليجي الغربي مكّن، بل وتسبّب، في “طلبنة” مساحات شاسعة من سورية، خاصة في الشرق الغنيّ بالنفط.
لقد نجح الأمر على هذا النحو حين أقامت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية متجراً عبر الحدود في تركيا، وأذن باراك أوباما بمبلغ 500 مليون دولار كمساعدات عسكرية -بما في ذلك صواريخ TOW المضادة للدروع- والتي انتهت الى أيدي “جبهة النصرة” والجماعات الإرهابية الأخرى. إن ردّ الفعل، إذا جاز التعبير، كان قيام “تنظيم القاعدة”، وتمكين “داعش”، وتحويل جزء كبير من سورية إلى معقل جهادي.
هذا السيناريو يشبه عملية “الإعصار”، مهمة المساعدة الفاشلة التي قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية في الحادي عشر من أيلول للمجاهدين الأفغان الثيوقراطيين على قدم المساواة في معركتها ضد السوفييت في الفترة من 1979 إلى 1988، وكانت تركيا حينها محطة الطريق للأسلحة والأموال لتنظيم “القاعدة” في باكستان، والآن ظهرت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ودول الخليج كأكبر داعمين للإرهابيين في سورية، وكانت كل ردود الفعل هي نفسها، إن لم تكن أسوأ.
الجديد في هذه المرة أن إسرائيل قدّمت يد العون لتمكين “جبهة النصرة” وحتى “داعش” بشكل خالف توقعاتنا، فقصفت أهدافاً سورية على مرّ السنين وموّلت بعض الإرهابيين على طول حدود مرتفعات الجولان. في الواقع، نشر أحد الكتّاب اليمينيين المتحالف مع نتنياهو مقالاً بعنوان “تدمير داعش أمر خاطئ”. والأكثر من ذلك، صرح وزير دفاع إسرائيلي سابق بشكل قاطع في عام 2016: “في سورية، إذا كان عليّ الاختيار بين إيران وداعش سأختار داعش”. كان هذا سخيفاً للغاية لأنه يعكس بالضبط العقيدة الإستراتيجية الإسرائيلية السائدة، وبالتالي الدولة الأمريكية والخليجية في المنطقة.
علاوة على ذلك، كان لدى صانعي السياسة في الولايات المتحدة أدلة كافية في وقت مبكر من الحرب أنه تمّ تسريب الإرهابيين إلى سورية، حتى رئيس وكالة الاستخبارات الدفاعية المفرطة في المحافظة (ومستشار الأمن القومي ترامب لاحقاً)، أبلغ مايكل فلين عن ذلك، كما فعلت الأمم المتحدة، وهذا ما يشير إلى التمكين الهائل للإرهابيين، بما في ذلك “داعش”.
عرفت غابارد هذا ورأته منذ البداية، وبالطبع لم تكن وحدها، فقد تساءل دينيس كوتشينيتش، ممثل أوهايو السابق المناهض للحرب على سورية، عما إذا كانت الغارات الأمريكية على سورية تحول الولايات المتحدة إلى “سلاح جو بيد القاعدة”. في ذلك الوقت اعترف نائب الرئيس آنذاك جو بايدن بأن “المشكلة تكمن في حلفائنا (دول الخليج وتركيا)”.
إذا كانت غابارد وكوتشينيتش على صواب، فمن الواضح أن جون ماكين كان مخطئاً للغاية، فقد زار سناتور أريزونا المتشدّد قبل وفاته مجموعات الإرهابيين عدة مرات. وخلال إحدى الزيارات، صرح قائلاً: “الحمد لله على السعوديين والأمير بندر ولأصدقائنا القطريين”. كان بندر، دون شك، هو المسؤول السعودي نفسه الذي قاد دعم الإرهابيين، كما طالبان في أفغانستان. وفي رحلة أخرى، تمّ تصوير ماكين مع مجموعة صغيرة من المقاتلين الإرهابيين، لقد كان مشهداً رائعاً ومؤثراً. كانت المشكلة هي أن اثنين من المتمردين الذين كانوا يقفون بجانبه هم من الإرهابيين المتورطين سابقاً في اختطاف الحجاج الإيرانيين. لم يعتذر ماكين أبداً أو ينكر دعمه القويّ للإرهابيين، حتى بعد أن علم جيداً أن الإرهابيين قد وضعوا أيديهم على معظم المساعدات الأمريكية والأسلحة.
لقد تمّت مهاجمة غابارد لأنها كانت عقلانية بشأن الإرهابيين ومسار الحرب في سورية، وكانت ثابتة على موقفها المعارض، وهذا هو بالضبط السبب في أنها أكثر المرشحين للرئاسة إثارة للاهتمام. ولهذا السبب يشعر تحالف من المطلعين في الدولة العميقة، وخبراء الفكر التدخليين، وتجار الأسلحة من الشركات، وأتباع الحزب الديمقراطي السائد، بأن عليهم إغراق حملتها.
ولمزيد من الإزعاج للأصدقاء الليبراليين، أبقى دونالد ترامب على 2000 جندي أمريكي بحماقة في سورية لإدامة الصراع مع روسيا، لكن من خلال سياساتها التي تأتي بنتائج عكسية، انتهى الأمر بواشنطن إلى أسوأ ما في العالمين: حرب مكلفة إلى جانب الإرهابيين، ومواجهة مثيرة للقلق مع روسيا وإيران على طول نهر الفرات، وبصمة عسكرية أخرى محفوفة بالمخاطر في مستنقع غير مستقر في الشرق الأوسط. برافو، أمريكا!
إنها عملية إعادة الهيمنة البيزنطية والسخيفة للهزيمة الذاتية للحماقة في حرب العراق عام 2003، والحملة المعادية للسوفيات في الثمانينيات من القرن الماضي، غذّت الولايات المتحدة “الإسلاموية” في المنطقة مرة أخرى قبل أن تتحوّل بعد ذلك إلى وحش فرانكشتاين الجهادية لتبرير “الحرب إلى الأبد”. من جديد، عند العودة إلى الوراء، كان الأمر كما لو أن واشنطن أرادت أن تنهار سورية، وأن الحرب ستحتدم إلى أجل غير مسمّى، وأن ينهض رجل دين جديد مثل طائر الفينيق الأسطوري، لكن كل ما قيل كان من الماضي، أما في الوقت الحاضر فلم يعد تنظيم “داعش” يزداد قوة مرة أخرى، لأن سورية وروسيا وإيران يحتفظون بأوراق رابحة لكسب المعركة، بينما بقيت القوات الأمريكية تائهة في رمال الشرق، ما يعني أن تولسي غابارد، وحدها تقريباً، كانت على حق منذ البداية.