دراساتصحيفة البعث

الحرب الإعلامية على إيران

 

إعداد: علاء العطار
كيف سيكون رد الولايات المتحدة لو أن طائرة إيرانية مسيرة انتهكت أجواءها؟ الجواب واضح بالطبع وهو أمر مبرر ومشروع لأي دولة، الأمر ذاته حدث في 20 حزيران عندما أسقطت إيران طائرة أمريكية مسيرة انتهكت مجالها الجوي، لكن السؤال الملح الذي يجب أن يسأله الغرب هو هل الوجود العسكري الأمريكي في الخليج العربي أمرٌ مبرر أم لا؟
حذر غريغوري شوباك، الخبير الإعلامي في جامعة جيلف-هامبر في كندا، من أن التصعيد الحالي بين الولايات المتحدة وإيران “يُقدّم إيران كتهديد مراراً وتكراراً، سواء كان تهديداً نووياً أو غير ذلك، ويحمل رسالة واضحة تحث على وجوب مواجهتها… لكن الأصح القول: إن الولايات المتحدة هي من يُشكل تهديداً على إيران، فالإدارة الأمريكية في النهاية تدمر الاقتصاد الإيراني عبر العقوبات التي تحد من حصول الإيرانيين على الغذاء والدواء، بينما تحاصر إيران بالقواعد العسكرية والقوات البرية والبحرية والجوية”.
وأسلوب قلب الحقائق هذا يدعم الوجود العسكري الأمريكي وتدعمه الذاكرة السياسية الانتقائية عند الغرب وأكاذيب وسائل الإعلام فيه، فعلى سبيل المثال، من يتذكر في الغرب مجزرة رحلة الخطوط الجوية الإيرانية رقم 655؟ حدث في 3 تموز من عام 1988 أن أسقطت السفينة الحربية الأمريكية “فينسنس”، أثناء قيامها بدورية في المياه الإقليمية الإيرانية، طائرة إيرانية تُقل 290 راكباً كانت متجهة إلى دبي، في البداية أنكرت الولايات المتحدة مسؤوليتها، ثم ادعت أن “فينسنس” كانت تعوم داخل المياه الدولية وأن الأمر اختلط عليها فظنت أن طائرة إيرباص المدنية طائرةٌ مقاتلة كانت تتجه نحوها بأسلوب يوحي بأنها تهديد، واعترفت الولايات المتحدة في وقت لاحق أن كلا البيانين غير صحيحين، وأعربت عن “أسفها العميق”، ودفعت 61.8 مليون دولار لعائلات الضحايا.
ورغم أن الغرب نسي هذه المجزرة بسرعة، إلا أن حادثة مشابهة ظلت حاضرة في ذاكرته لفترة طويلة، إذ حدث في الأول من أيلول عام 1983 أن أسقطت طائرة مقاتلة سوفيتية، من طراز سوخوي 15، طائرة بوينغ 747 تابعة لخطوط الطيران الكورية تقل 269 راكباً كانت متجهة إلى نيويورك، حيث انحرفت الطائرة الكورية عن مسارها بالخطأ ودخلت المجال الجوي السوفييتي ليلاً محلقة فوق منشآت عسكرية حساسة، وقال الكرملين إنه ظنّها طائرة تجسس، وهذه الحادثة تقنعنا أكثر من سابقتها بحدوث خطأ مبرر ومفهوم، فالطائرة الإيرانية لم تدخل المجال الجوي الأمريكي أو تحلق فوق منشآت عسكرية أمريكية حساسة.
توفر هاتان الحادثتان الموثقتان فرصة لإجراء تجربة علمية، فالاختلاف في تعامل الإعلام مع قصتي الطائرة الكورية والطائرة الإيرانية يمنحنا مقياساً دقيقاً للتحيز الإيديولوجي لوسائل الإعلام الغربية، وخاصة الصحافة الأمريكية، التي يُشاد “بكفاءتها المهنية” حول العالم بشكل مغلوط.
في 2 أيلول من عام 1983 نشرت صحيفة نيويورك تايمز افتتاحية بعنوان “جريمة في الجو”، وجاء فيها “ليس هناك عذر مقبول لأي دولة تسقط طائرة غير معادية”، وبعد خمس سنوات، عندما قامت طائرة أمريكية بإسقاط الطائرة المدنية الإيرانية رقم 655، أصبحت كل أنواع الأعذار التي قدّمتها الولايات المتحدة مقبولة، وأكدت التايمز أن “رغم هولها، إلا أنها كانت مجرد حادث، وبناءً على الأدلة الحالية كان من الصعب على البحرية معرفة ما يمكن أن تفعله لتجنب ذلك”، ودعت قراءها إلى أن يضعوا أنفسهم في مكان “النقيب ويليام روجرز الذي أمر بإطلاق الصاروخ… ويصعب انتقاد قراره بمهاجمة الطائرة المشتبه بها”، كما زعمت التايمز أن اللوم يقع على كلا الجانبين، إذ أن “إيران أيضاً قد تتحمل مسؤولية فشلها في تحذير الطائرات المدنية بالابتعاد عن منطقة القتال”.
في دراسة مقارنة بين المأساتين نُشرت في عام 1991، أشار عالم السياسة روبرت إنتمان إلى أن وجهة النظر التي اعتمدتها وسائل الإعلام الأمريكية بخصوص قصة الطائرة الكورية “شددت على إدانة الدولة المرتكبة وإفلاسها الأخلاقي”، أما في حالة الطائرة الإيرانية، عمل التأطير الإعلامي على التقليل من أهمية الإثم الذي ارتكبته الولايات المتحدة وركز على المشاكل المعقدة لعملية تشغيل التكنولوجيا العسكرية المتقدمة”.
ويمكن ملاحظة هذه الطريقة في المعالجة غير المتوازنة أيضاً في الأهمية الممنوحة للموضوع والمفردات المنتقاة وتوصيف الضحايا، ففي الأسبوعين التاليين لإسقاط الطائرة الكورية، حصل هذا الحدث على تغطية أكبر بكثير من حدث الطائرة الإيرانية، 50 صفحة للأولى مقارنة بـ 20 للثانية في صحيفة التايم ومجلة نيوزويك، و286 مقالة مقارنة بـ 102 في صحيفة نيويورك تايمز، وبعد حادثة إسقاط الطائرة الكورية، تزاحمت أغلفة المجلات الأمريكية على نشر العنوان الأكثر إثارة للسخط: “جريمة في الجو: كمين وحشي في السماء” (نيوزويك، 13 أيلول 1983)، “عمل وحشي في السماء: رحلة الخطوط الجوية الكورية رقم 007 التي أسقطها السوفييت” (التايم، 12 أيلول 1983)، “لماذا فعلت موسكو ذلك” (نيوزويك، 19 أيلول 1983).
ولكن عندما كان الصاروخ أمريكياً تغيرت النبرة، فلم يذكر الإعلام الأمريكي فظاعة الحدث ولا النوايا السيئة الكامنة وراءه، واستخدمت وسائل الإعلام صيغة المبني للمجهول كما لو أن المجزرة لم تحدث بفعل فاعل، وكان العنوان الذي اعتمدته نيوزويك هو “لماذا حدث ما حدث” (18 تموز 1988)، ووضعت التايم قصة حول السفر إلى المريخ على غلافها الأمامي وهمشت قصة الطائرة الإيرانية بوضعها في صفحاتها الداخلية تحت عنوان “الالتباس الذي حدث في الخليج”.
وفي حالة الطائرة الكورية كانت أكثر المفردات شيوعاً في صحيفتي واشنطن بوست ونيويورك تايمز هي “وحشية” و”همجية” و”بربرية” و”متعمدة” و” قاتلة”، أما في حالة الطائرة الإيرانية فكانت “بالخطأ” و”محزن” و”مُقدّر” و”مفهوم” و”مبرر”، والسؤال هنا هل يحتاج المرء أن يخبره الصحافيون عندما يكتبون عن “الأبرياء” و”269 مقالة من التأبين الشخصي” وعن “أحبائهم”، وعندما يشيرون إلى “الركاب” و”المسافرين” و”أولئك الذين ماتوا”؟
يساهم هذا الأسلوب الصحفي الآلي في نشر معلومات مضللة بقدر ما تفعله الأكاذيب الصريحة، بالرغم من أن فك رموز هذه التحيزات الغربية أقل شيوعاً من فك رموز “الأخبار المزيفة”، وتساعد كراهية الغرب لإيران والترويج لأكاذيب البنتاغون في اكتساب أو الحفاظ على موقع سلطة في قطاع الأعمال الإخبارية الأمريكية.
كتب ريتشارد كوهين، وهو صحافي في صحيفة واشنطن بوست “هؤلاء الفُرس مدمنون على الكذب” (29 أيلول 2009)، وأصبح الصحافي بريت ستيفنز نجماً في صحيفة نيويورك تايمز بعد أن وصف صفقة باراك أوباما النووية مع إيران بأنها “أسوأ من اتفاقية ميونيخ” (وول ستريت جورنال، 26 تشرين الثاني 2013)، ولم يؤد قتل وتقطيع الصحافي في صحيفة واشنطن بوست، جمال خاشقجي، في تشرين الأول عام 2018، إلا إلى إبطاء عملية مداهنة النظام السعودي المعادي لإيران.
وعادة ما تعتبر شبكات التلفزة العامة، أمثال شبكة “PBS”، تفضيل دونالد ترامب على باراك أوباما أمراً سيئاً، ولكن هذه القاعدة لا تُطبّق عندما يتعلق الأمر بإيران، حيث قال ديفيد بروكس، وهو معلق في صحيفة نيويورك تايمز، في 11 أيار عام 2018 إن الحجة التي طرحها أوباما بأن “إيران ستتخذ موقفاً معتدلاً وستصبح عضواً مألوفاً بين الأمم…
اتضح أنها خاطئة، فهي أكثر الأمم إجراماً على وجه الأرض، وهي تُصدّر العنف والإرهاب إلى العالم، لذا فإن ترامب يمتلك بعض الشرعية لأنه يقف في وجهها على الأقل”، وكل ذلك لشيطنة إيران ولإعداد الرأي العام للحرب عليها، و”من الأفضل لك ألّا تعرف شيئاً عن البلد الذي تستهدفه”.