أخبارزواياصحيفة البعث

ثقافة “الوجبة السريعة” والصراع على وعي الكتلة الشبابية

د. إبراهيم علوش

فجوة التواصل مع الشباب، التي تطرق إليها د. عبداللطيف عمران مشكوراً، في مقالته “من يخاطب الشباب؟”، الأربعاء الفائت، تفتح الباب على تساؤلاتٍ كثيرة لطالما واجهت دعاة التحرر الوطني والقومي والاجتماعي ليس في سورية فحسب، بل في الوطن العربي عموماً، مثل: هل سبب فجوة التواصل مع الكتلة المجتمعية عموماً، والكتلة الشبابية خصوصاً، هو مضمون الطرح الوطني والقومي واليساري والتحرري ذاته، أم تقادم أدوات ذلك الطرح ومفرداته وعدم ملائمتها للقرن الحادي والعشرين؟.

بمعنى آخر، هل صحيحٌ ما يروِّج له دعاة الخط الليبرالي المتغرب من أن مفاهيم القومية والاشتراكية والتحرر الوطني والاجتماعي تنتمي لبضع عقودٍ انقضت في القرن العشرين،  وأنها باتت تالياً خارج التاريخ مع تغير ظروف العالم المعاصر وهيمنة مرجعية “الفرد الحر” في الاقتصاد والسياسة والثقافة، على مرجعية الوعي والحس الاجتماعي الذي يدفع الفرد عفوياً للتفكير والعمل على مستوى “طبقة” أو “وطن” أو “أمة” أو “أمم”؟

هل حلَّ المفهوم “الإنساني” القائم على مرجعية الفرد المنقطع عن أي انتماء قومي أو حضاري محل مفهوم “الأممية” المنبثق من حقيقة وجود أمم ومجتمعات وطنية؟  وهل سقطت “السرديات الكبرى”،  كما يزعم أنصار ما بعد الحداثة، ليتربع “الفرد المتعاقد” المنطلق من قيم تعظيم الربح والخصوصية الفردية محل التضحية من أجل ما هو أسمى منه بكثير؟  وهل يعني ذلك أن نمط العمل السياسي الذي تروج له دولارات الدول الغربية المانحة وصناديق الشركات متعدية الحدود القائم على شبكات القضية الواحدة مثل حقوق الإنسان أو الحيوان أو البيئة أو المرأة أو الأطفال إلخ…  في صدد الإطاحة نهائياً بالأحزاب والتيارات التي تتبنى رؤىً كليةً يرى الليبراليون أنها “شمولية” و”متعسفة” وغير متلائمة مع خصوصيات الزمان والمكان؟

باختصار، هل كل ما سبق هو سبب فجوة التواصل بين الشباب من جهة، والمجتمع أو الدولة أو الأحزاب أو المفكرين والكتاب المعاصرين من جهةٍ أخرى، وعلينا بالتالي أن نعترف أن المشكلة ليست مشكلة تواصل إذاً بمقدار ما هي مشكلة غربة الأطر الجمعية، مثل الدولة أو الحزب أو “أصحاب الرؤى الشمولية”، عن العصر وعمن فيه، وأن على الأطر الجمعية مثل الدولة أو الأحزاب مثلاً أن تحل نفسها وتفكك أطرها لتخلي المسرح للسوق الحرة والفرد المتعاقد والمنظمات غير الحكومية وشبكات القضية الواحدة والإدارات المحلية غير المقيدة بأي رابط مركزي؟

النقطة الأخيرة هي بيت القصيد، لأنها تمثل برنامجاً سياسياً محدداً هو برنامج العولمة والشركات متعدية الحدود المعادي للمرجعيات “المركزية” الوطنية والقومية، باعتبارها عائقاً أمام حرية حركتها واستثمارها وسوقها الكونية، وهذا البرنامج الذي يرفع عالياً رايات “الحرية الفردية” و”الهوية الإنسانية” و”التعددية الثقافية” صعد على أجنحة تطور قوى الإنتاج وعلاقاته في العقود الأخيرة من القرن العشرين، لا سيما تطور وسائل الاتصالات مثل البث الفضائي والشبكة العنكبوتية وما نتج عنها من تسارع في حركة رأس المال والتأثيرات الإعلامية والثقافية عبر الحدود.

المسألة لا تتعلق بمؤامرة هنا بمقدار ما تتعلق بتطور موضوعي عزز من قدرة الغرب ككتلة على التحكم بحركة رأس المال والتجارة الدولية، كما نرى من عشرات برامج العقوبات التي يفرضها على دول العالم (وهو ما تسعى دول البريكس والدول المستقلة لقلب معادلته)، كما عزز من قدرة الغرب على إنتاج القيم الثقافية الليبرالية وتعميمها، كما نرى مثلاً من عشرات قنوات الأفلام الأجنبية التي تبث بعدة لغات مجاناً لكل من يملك صحناً فضائياً، فيما عليك أن تدفع اشتراكاً شهرياً في الولايات المتحدة مثلاً لتلقّي تلك الحزمة من القنوات.  وقد أظهرتُ في كتاب “الرسالة السياسية لهوليود: تفكيك الفيلم الأمريكي” (2013) أن رسالة أفلام هوليود الأساسية، قبل الترويج للصهيونية أو لـ”بطولة الجيش الأمريكي” و”عدالة حروبه الخارجية” إلخ…، أي قبل وبعد الرسالة السياسية المباشرة، هي الرسالة الثقافية المتمثلة بتعميم جمالية نموذج “الفرد الحر” الليبرالي، “الإنساني”، اللامنتمي اجتماعياً وقومياً، المتفوق، والأوسع خيالاً، والأكثر تميزاً، وهي الجرعة التي يتناولها ملايين الشباب والشابات العرب يومياً على مدى سنوات في قالبٍ من التشويق والإثارة والتأثيرات السمعية والبصرية المبهرة المدعومة بعشرات ملايين الدولارات للفيلم الواحد والتي لا يمكن أن تضاهيها محاضرة أو مقالة أو مناقشة فكرية تتطلب إعمال الذهن وبذل جهدٍ منهجيٍ مضنٍ.

لقد حلّت ثقافة “الوجبة السريعة” محل الملذات الفكرية والثقافية العليا التي تتطلب قدراً من الإعداد وسنوات من الجهد في القراءة والتفاعل مع أصحاب المعرفة، ولهذا ترى على وسائل التواصل الاجتماعي أن المنشور الذي يوصل رسالة سريعة (ضحلة أو عميقة) في بضع كلمات هو أكثر تأثيراً وانتشاراً بالضرورة من هذه المقالة مثلاً، وترى أن فيلماً وثائقياً من دقيقتين أو أقل هو أكثر تأثيراً وانتشاراً من فيلم من عشر دقائق، وأن ما هو مضحِك أو درامي أكثر تأثيراً مما هو موضوعي أو فكري، لأن البحث عن أغنية أو “نشوة سريعة” بأقل قدر ممكن من الجهد والإعداد وصقل حاسة التذوق بات عنوان المرحلة الاستهلاكية عالمياً.

حتى دورات التدريب والتنمية البشرية التي تعدك بأنها ستعلمك علماً معقداً في ثلاثة أو خمسة أيام تتضمن ألعاباً وتمارينَ تهدف للترفيه عن المشاركين وإشعارهم بـ”الرضا عن الذات”، لأنهم “شاركوا” و”ضحكوا” و”تفاعلوا عاطفياً”، أكثر مما تهدف لتعليمهم شيئاً حقيقياً لا يتأتى في الواقع إلا لمن يبذل شهوراً وسنواتٍ صبورة في الدراسة والإعداد، ولكن مثل هذا القول لا يبيع دورات تدريبية ولا ينجح تسويقياً.  فهل تذكرون كتباً كانت تباع على الأرصفة مثل “تعلم اللغة السنسكريتية في خمسة أيام من دون معلم”؟

بلى، لقد تغير العالم، والاختراق الليبرالي في المجتمع والثقافة الذي حققته العولمة، هذا الاختراق الذي لم يتعارض على ما نرى مع ازدهار الحركات الانفصالية والجهوية وحركات التدين السياسي، لا سيما الطائفية منها، لا يوصلنا قط إلى أن المشكلة تكمن في مضمون طرح التحرر الوطني والقومي والاجتماعي، على العكس تماماً، إنه يوصلنا إلى راهنية مثل ذلك الطرح وضرورته المتجددة، لأنه النقيض الموضوعي للطرح الليبرالي، ولأن الطرح الوطني والقومي هو ما يعصمنا من تفكك المجتمع إلى شذرات فردية، لا من تفكك الأوطان إلى دويلات والحركات الوطنية إلى منظمات “مجتمع مدني” ممول أجنبياً فحسب.

من البديهي طبعاً أن كلمات هذه المقالة غير القصيرة موجهةٌ للكتاب والمناضلين للوطنيين والقوميين لعلهم يتنبهون إلى أن الوسائل المتكلسة والتقليدية لم تعد تنفع، وأن من يصرون عليها باتوا عبئاً على الطرح الوطني والقومي، أما الانتهازيون وأصحاب الأجندات الخاصة الذين يتغطون بالطرح الوطني والقومي والاشتراكي فقد باتوا عبئاً أكبر ويتوجب أن نضع حداً فاصلاً بيننا وبينهم لأنهم باتوا حجةً ليبرالية تسعى لتقويض الحس والوعي الاجتماعي.

كذلك باتت الخيارات غير محدودة أمام مستهلك المنتجات الثقافية والإعلامية اليوم، وأن وقت الناس بات أضيق بكثير، وبالتالي فإن فكرة “التأسيس” لطرح ما بمقدمات طويلة عريضة مثلاً على طريقة الختايرة في المجالس أيام السراج والفتيلة هي أسرع طريقة لخسران المستمع أو المشاهد أو القارئ، وأن الناس يميلون للانتباه لما هو قريب منهم ومن مشاكلهم وقضاياهم، وأن التهريج والضحالة والإسفاف من المؤكد أنها تجذب الباحثين عن الترفيه أكثر بكثير، لكنها لا تمكث في الأرض، وأن التفاعل الحقيقي يكون بين من يمتلكون خلفية ما ليخوضوا في القضية موضع البحث، لكن الحوار والتفاعل يبقيان أساسيين.

وفي النهاية، مهمتنا أن ننتج ثقافة وفناً وأدباً وسينما ملتزمة، وأن نقاوم التأثيرات الثقافية التي تبعد الشباب عن الوطن والقضايا المصيرية، وأن نحارب تجريف المقاييس، ومثل هذا التحدي يتطلب منا اجتراح وسائل جديدة لا غنى عنها تراعي ظروف العصر ولكن لا تدفعنا لفقدان احترام الذات أو للتخلي عن جوهرنا الوطني والقومي الذي نصبح من دونه هشيماً تذروه الرياح.