ثقافةصحيفة البعث

حفلات توقيع الكتب.. وحقيقة النقد

 

على الأرجح إن صدور منجز إبداعي أو بحثي يشكل حدثاً بعينه، وأكثر من ذلك أصبح جزءاً من تقاليد اجتماعية تعيد طقس القراءة، أو التعرف على المنتج من خلال العلاقة المباشرة مع الكاتب أو المبدع، وإذا كانت هذه الظاهرة تتواتر بدينامية بعينها في مشهدنا الثقافي فإن الأمر اللافت هو ما يصاحبها من نقد ربما تحت مسميات مخاتلة «إضاءة أو قراءة أو تقديم»، وعليه فإن السؤال الحاسم تُرى هل يُقدم نقدا حقيقيا، وهل بوسع الناقد أن يقدم نقداً حقيقياً للمبدع دون أن ننسى أن الكتاب في هذا السياق هو في مقام الاحتفاء، أكثر منه في مقام الدرس النقدي المتخصص.
هذا السؤال الذي يعني جملة من الأسئلة التي تطاول حقيقة النقد في أدواره ووظائفه، لا سيما ما يقال على هامش حفلات التوقيع تلك، أي بمجانية في المقاربة أو هجاء للمنجز والغمز من قناة صاحبه، لكن النقد ليس ذلك إطلاقاً، هو أقرب إلى التوصيف متخففاً من حكم القيمة، وهذا يعني أن الكثير من «النقود» التي تقدم من شأنه أن تذهب إلى إضاءة عامة، ربما تتطرق إلى سيرة المبدع، أكثر منها سيرة للنص المُبدَع، فلا يمكن أن يقوم نقد حقيقي إلا إذا كان الأمر يتعلق بمكان مختلف وظرف مختلف ليكون في السياق المعرفي وليس الاشهاري، ذلك أن ذائقة الجمهور لا تستطيع -في الأغلب الأعم- ولو جزئياً الفصل بين الكاتب ومنجزه، لأن تقاليد الاحتفاء بالكتاب تعني الانسجام مع دلالة الاحتفاء، ويمكن للناقد أن يضيء عليه ليقدمه للجمهور بوساطة جملة من المفاتيح القرائية التي تحفز هذا الجمهور على قراءة كتاب واقتنائه واختبار مقولات الناقد الافتراضي حوله، من حيث مصداقيتها ودقتها أو ربما مجافاتها للحقيقة، النقد كممارسة معرفية للإبداع لا ينجز نصه المفترض في حفلات التوقيع، لأن ثمة مفارقات عديدة حملها المشهد الثقافي: مفارقة أن يقدم النقد درسه فينفصل عن الواقع، ومفارقة طبيعة تلقي النقد في سياق الاحتفاء، صحيح أن اللغة هي منظومة إشارية يستطيع الناقد أو القارئ أن يرسل من خلالها رسائل بعينها إلى المبدع، إذ ليس الأمر محض هجاء أو مجاملة عابرة أو نقد لاذع يستبطن الهجاء، فهذا لا ينتمي إلى وظيفة النقد ولا يحقق الغاية المرجوة منه، لكن مع اختلاط المصطلحات والتباسها بشأن «النقد»، سيصبح السؤال عن أهمية الكتاب نافلاً، لأن القارئ العام يستطيع إن اقتنى الكتاب أن يبذل فيه ذائقته ومعرفته على نحو ما، على الرغم من تغير فضاء التغير راهناً، إذن لا يمكن لنقد حقيقي أن يقدم في سياق حفلات توقيع الكتب، إلا إذا خصصت لها أمسيات مستقلة أكثر تخصصاً وقراءة فاحصة أكثر فائدة للمبدع، كي يتأمل نتاجه بعيداً عن طقوس المجاملات المجانية على الرغم من أن القليل جداً من النقاد من يستطيعون النفاذ إلى النصوص وتوصيفها بحياد وموضوعية وتقريب المفاهيم النقدية لا تبسيطها وابتذالها إلى الذائقة العامة، فثمة مسؤولية بصدد تدقيق المصطلحات والأفكار التي يُقدم بها من يضيئون على نصوص الإبداع أو سواها، لأن النقد وفعاليته المعرفية تحتاج لغة نقدية لا لغة عمومية، لغة متواشجة بالضرورة مع مرجعية معرفية وفكرية أقرب إلى الموسوعية منها إلى شغف الكلام، وبالتالي لا يحتاج هذا المشهد إلى مفارقات إضافية تجعل من بعض «النقاد» دليلاً صالحاً للقراءة أو العكس تماماً، أي من بعض ما يُكتب وما يُطبع دليلاً صالحاً على عافية المشهد الإبداعي، وبالمحصلة نحتاج للقول ماذا بعد مقولة: «المشهد الثقافي ليس بخير»!.

أحمد علي هلال