أخبارزواياصحيفة البعث

وماذا عن «سعر صرف» حياة جنودنا الأبطال وأدائهم المعجزة على خط النار؟..

د. مهدي دخل الله

لا شك في أنه سعر مرتفع جداً في سوق تجارب الشعوب أثناء الحروب. فما تقدمه قواتنا المسلحة من حلول استراتيجية وتكتيكية وإرادة وطنية في حرب ليست كالحروب يفوق في قيمته ما يعرفه التاريخ المعاصر عن الحروب الأخرى.

إن ثقتنا بهذا الجيش ربما تخفف من اهتمامنا اليومي بأوضاعه وتحدياته. بينما يهتم كل سوري يومياً بسعر صرف العملة الوطنية تجاه العملات الأخرى. وهذا الاهتمام له ما يسوغه لأنه يتعلق بمستوى معيشة الناس. لكن المشكلة في طريقة التفكير بهذا الموضوع..

هناك عدة إشكالات منهجية في النقاش الشعبي الواسع حول هذا الموضوع:

1-    أن معيار التقييم المستخدم هو «مدينة فاضلة» لم يخلق مثلها في البلاد ولا علاقة لها بعلم الاقتصاد النقدي والمالي، وبالأوضاع التي تمر بها سورية..

2-    أن التقييم لا يستند الى قواعد معرفية لمجال معقد ومتشابك ولا إلى معلومات دقيقة. ترى كل واحد منا يحلل أموراً صعبة وكأنه خريج جامعة هارفارد في علم الاقتصاد الكلي!..

3-    يعزل كل منا موضوع صرف العملة عن الأحوال العامة التي نمر بها، محولاً الواقع المتماسك والمتفاعل إلى جزر منعزلة في منهج تحليلي بعيد كل البعد عن العلمية والمنطق..

4-    نناقش موضوع العملة بعيداً عن المنهج المقارن، ودون أن نعلم ماذا حصل بعملات البلاد التي خاضت حروباً أسهل من الحرب التي تخوضها بلادنا. فسورية جزء من هذا العالم تنطبق عليها القوانين الموضوعية العامة التي تحدد مسار حياة البشر ومجتمعاتهم.

لكل منا الحق في طرح التساؤل، لكن ليس لأحد منا الحق في إلقاء الجواب كيفما اتفق دون معرفة علمية وحقيقية بموضوع من أصعب موضوعات الاقتصاد في العالم على الإطلاق. فلا يجوز لمن يحق له أن يهتم ويسأل أن يتحول فجأة إلى عالم بالنقد والمال وتشابكات هذا المجال المعقد.

وهدفي هنا ليس تسّويغ سياسات نقدية ومالية معينة في بلدنا، وإنما الإشارة الى بعض الجوانب العلمية والمقارنة في هذا الموضوع:

أولاً – ينبغي الاستناد في أي تحليل الى الرابط المباشر بين الحرب ومنعكساتها من جهة، والأوضاع الاقتصاديةوالاجتماعية ( بما في ذلك سعر العملة الوطنية) من جهة أخرى. وإنني هنا أرشد من أراد بأن يراجع الفصل الثاني عشر من كتاب جون جالبرايت (تاريخ الفكر الاقتصادي– الماضي صورة الحاضر)، حيث يعرض العلاقة بين العملة والحروب. وجالبرايت باحث اقتصادي كبير من داخل البيت الأمريكي نفسه. أما كتابه فترجمته صادرة عن دار المعرفة في الكويت عام   (2000).  وهنا لابد من التأكيد على أن اهتمامنا بسعر صرف الليرة ينبغي أن نربطه مباشرة «بسعر صرف» بطولات جيشنا. فإذا أزعجنا انخفاض سعر العملة لأسباب موضوعية بالمقارنة مع العملات الأخرى فإن ارتفاع سعر بطولات هذا الجيش بالمقارنة مع الحروب الأخرى يملأ نفوسنا فخراً واعتزازاً..

ثانياً – ليست المشكلة في تكاليف الحرب فقط، أو مايسمى ضرورة التمويل بالتضخم، وإنما المشكلة هي سيطرة الإرهابيين والمحتلين على قسم كبير من ثروات البلاد ومصانعها وأراضيها وطاقتها الانتاجية لسنوات طويلة..

ثالثاً – إن تمويل الحرب ومنعكساتها بالتضخم ضرورة لا مفر منها. وإن الحلول السورية أفضل بكثير من حلول الدول الأخرى لأن التضخم المعبر عنه بارتفاع الأسعار وانخفاض سعر العملة السورية هو في المستوى الأدنى مقارنة بالتجارب الأخرى :

1-    الولايات المتحدة الأمريكية: مولت حرب التحرير من بريطانيا بنقد ورقي دون تغطية اسمه نقد الكونتينتال، ومولت حربها الأهلية بين الشمال والجنوب بنقد مماثل اسمه الظهر الأخضر (Greenbacks) وبسندات عبر الائتمان عند الحكومة الفدرالية، وهي سندات غير قابلة للتحويل إلى ذهب.

وفي ستينيات القرن العشرين مول الرئيس جونسون حربه في فيتنام بأوراق نقدية للدولار دون تغطية، مما أدى الى انهيار سعر صرف الدولار وقوته الشرائية عشرات الأضعاف. اضطر خلفه نيكسون الى نقض اتفاق أمريكا مع صندوق النقد الدولي حول العلاقة الثابتة بين الدولار والذهب، وقام بتعويم سعر صرف الدولار. ولولا البترودولار الذي حصلت عليه أمريكا بعد حرب تشرين في الشرق الأوسط لأصبح وضع الدولار مزرياً تجاه العملات الأخرى.

2-    بريطانيا: أصدر بنك انجلترا نقوداً ورقية دون رصيد لتمويل الحرب ضد ملك فرنسا لويس الرابع عشر. وأصدرت تاتشر في سبعينيات القرن العشرين أوراقاً نقدية دون تغطية لتمويل حرب الفوكلاند ما أضعف العملة البريطانية والاقتصاد البريطاني برمته.

3-    الثورة الفرنسية عام 1789: أصدرت أوراقاً نقدية دون غطاء لتمويل حاجات الدولة تمويلاً تضخمياً..

4-    ألمانيا: مولت حربها إبّان الحرب العالمية الثانية بنقد ورقي دون غطاء لدرجة أن سعر علبة السجاير أصبح آلاف الماركات..

أما، فيما يخص الدول القريبة منا التي خاضت حروباً، فالمقارنة هي لصالح سورية بفارق إيجابي كبير، فبينما انخفض سعر الليرة عشرة أضعاف تقريباً أو اثني عشر ضعفاً (من خمسين ليرة الى خمسمائة أو ستمائة ليرة للدولار) نجد الوضع في لبنان والعراق كارثياً:

لبنان: عند بدء الحرب منتصف السبعينيات كان سعر صرف الليرة اللبنانية ثلاثة ليرات مقابل الدولار. بعد فترة ليست طويلة أصبح السعر ثلاثة آلاف ليرة مقابل الدولار، أي أن سعر الليرة انخفض ألف ضعف (بالمقارنة: ينبغي أن يكون الوضع عندنا خمسين ألف ليرة سورية مقابل الدولار). حتى بعد انتهاء الحرب استقر السعر على ألف وخمسمائة ليرة لبنانية مقابل الدولار أي خمسمائة ضعف عن مستوى عام 1975. هذا على الرغم من أن لبنان يحصل على مساعدات خارجية سنوية إضافة إلى أكثر من ثمانين مليار دولار من الديون… هذه العوامل الداعمة غير موجودة في الحالة السورية.

العراق:الكارثة كانت أكبر. فلقد انخفض سعر الدينار العراقي بسبب الحروب من أقل من ثلاث دينارات للدولار عام 1971 إلى أربعة آلاف دينار مقابل الدولار، أي ألف وثلاثمائة ضعفاً.. هذا على الرغم من أن العراق بلد غني بالنفط على عكس سورية.

أخيراً… حالتنا في سورية يصدق عليها قول الشاعر الأندلسي: تعجبين من سقمي ؟ صحتي هي العجب!…

mahdidakhlala@gmail.com