دراساتصحيفة البعث

تبدل بنية العلاقات الدولية وأثره في الحرب على سورية

 

ترجمة وإعداد: علاء العطار

لا ريب أن البنية الحالية للعلاقات الدولية تتبدّل بشكل ملحوظ، خاصة وأن العالم يبتعد أكثر وأكثر عن البنية أحادية القطبية المألوفة المتمثّلة بالهيمنة الأمريكية التي صاغت خيارات التحالف لكلٍّ من حلفائها وخصومها، وهذا الأمر أدى بدوره إلى تبدّل التحالفات في الشرق الأوسط وتغيّر بنية العلاقات في المنطقة، لكن كيف أثرت هذه العملية في الحرب الدائرة على سورية؟ وما هي الظروف البنيوية الدولية الرئيسية التي أثرت في هذه الحرب؟ وما هي القرارات الرئيسية التي اتخذها لاعبون خارجيون على مدار الصراع والنتيجة التي ترتبت عليها؟.
لا يمكن لأحد إنكار دور تدخل الولايات المتحدة وحلفائها في هذه الحرب منذ اندلاعها، وما آلت إليه من نمو للوجود الإرهابي الذي توّج بإعلان خلافة “داعش” الذي كان عبارة عن مجموعات إرهابية متبعثرة تقاتل الحكومة السورية الشرعية بدعم وغطاء من قادة الغرب وبعض القادة الإقليميين.
يجب فهم النقاش الدائر حول تحمّل مسؤولية ما حدث في سورية ضمن إطار النقاش الدائر بين منظّري العلاقات الدولية حول مدى تأثير خيارات القادة على الأحداث الكبرى، كالحروب مثلاً، والقيود التي تفرضها الظروف البنيوية الشاملة، وكان السؤال الجوهري في هذا النقاش هو ما إذا كانت السطوة أكثر أهمية في تحديد العلاقات الدولية من البنية، وشغل هذا السؤال عقول الباحثين وصانعي القرار في الشرق الأوسط عند سعيهم لتفسير تبعات ما يُدعى بـ”الربيع العربي”، وحاول بعضهم سدّ هذه الفجوات من خلال تبيان طريقة صناعة السياسة الخارجية عبر تفاعل السياسة الداخلية مع الظروف الهيكلية العالمية.
والحرب على سورية تؤكد أهمية الهيكل العالمي والإقليمي في تقييد الوكالة والسياسة العامة والتفاعل مع السياسة الداخلية، لكن رغم ذلك، غالباً ما تُحدّد شخصيات القادة وخياراتهم شكل وطبيعة الإجراءات المتخذة ضمن هذه القيود.

التغير البنيوي العالمي والإقليمي
تطورت الأزمة السورية بسرعة من احتجاجات ادّعت السلمية إلى حروب متعدّدة وحروب دولية بالوكالة، وتعدّ هذه الحرب حالة اختبار مفيدة تساهم في الجدال الدائر حول السطوة وبنية العلاقات الدولية، وإلى عدد الجهات الفاعلة الخارجية المنخرطة وعدد القرارات الرئيسية التي أثرت في نتيجة الحرب.
في العقد الذي سبق الأزمة السورية، حدثت سلسلة من التغييرات البنيوية التي ستؤثر بدورها بشكل كبير على الصراع وتصيغ ردود أفعال اللاعبين الخارجيين، على الصعيدين الإقليمي والعالمي، إذ كان النظام الدولي الإقليمي يتحوّل إلى نظام متعدّد الأقطاب غير ناضج، وبما أن نفوذ الاتحاد السوفييتي تراجع في الثمانينيات، يمكن وصف النظام في الشرق الأوسط بأنه نظام أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها، مع عدم وجود أنداد أقوياء بدرجة كافية تمكنهم من تحدي تلك الهيمنة آنذاك– والحال تبدّل الآن بصعود سورية وإيران وحزب الله.
كان هذا النظام غير مستقر في العقد الأول من القرن الحالي، وذلك بفعل عاملين، هما: تداعيات الحرب على العراق عام 2003 والتطورات الاقتصادية العالمية والإقليمية، والتي تفاعلت فيما بينها لتُغيِّر العديد من الظروف البنيوية الإقليمية، والعالمية كذلك، وكان التحول الأول صعود طهران بعد الإطاحة بصدام حسين وحدوث طفرة اقتصادية داخلها، ما مكّنها من توسيع نفوذها على المستوى الإقليمي أكثر من أي وقت سبق منذ الثورة الإسلامية على الشاه عام 1979، وأدى ذلك إلى التحول الثاني المتمثل بتدخل السعودية الجائر في سياسات الشرق الأوسط لاحتواء عدوها الإقليمي المفتعل المتمثّل بإيران.
وأنتج هذا التكالب السعودي على إيران تكتلات متنافسة، إلا أن ذلك لم يعزّز النظام الثنائي القطبية الضعيف بحكم حدوث تحول ثالث، وهو دخول تركيا كقوة إقليمية، وحدث ذلك بفعل عوامل سياسية واقتصادية محلية- أيديولوجية الحزب الحاكم ذات الميول الإسلامية، والبحث عن أسواق جديدة لقطاع الصناعات التحويلية المزدهر. كما دخلت قطر، التي استفادت من طفرة الوقود الأحفوري مدفوعة بالطلب الصيني، السياسة الإقليمية كقوة مالية مستقلة، وتكفّلت طموحات قطر وتركيا بأن يصبح النظام الإقليمي متعدّد الأقطاب وليس ثنائي القطب.
وكان التبدّل البنيوي الإقليمي الأخير هو نمو الدول الهشة، إذ أدى انهيار العراق بعد عام 2003 وعدم الاستقرار في اليمن إلى زيادة ساحات المنافسة الإقليمية في ظل هذا النظام الناشئ المتعدّد الأقطاب، كما أنه خلق مساحة للجهات الفاعلة غير الحكومية، وفي الفترة التي سبقت عام 2003، كان لبنان، وفلسطين إلى حدّ ما، ساحة المعركة الرئيسية للمنافسات الإقليمية، وبعد عام 2003، أضيف العراق واليمن إلى هذه القائمة، وبعد عام 2011، أدرجت ليبيا وسورية على قائمة الاستهداف.
وعلى المستوى العالمي، كان النظام الدولي في حالة تبدّل نحو نظام متعدّد الأقطاب، حيث أشار تمدّد الإمبريالية الأمريكية وفشلها في العراق في عامي 2003 و2011 والأزمة المالية لعام 2008 إلى أن الولايات المتحدة أصبحت أقل ميلاً نحو التدخل، وساهم ذلك في انتخاب باراك أوباما عام 2008 الذي وعد بالانسحاب من العراق والتوجّه نحو آسيا، في الوقت نفسه، كان الاقتصاد الصيني يزدهر ويتحدّى النظام الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا وإفريقيا، بينما أصبحت روسيا أكثر حزماً في عهد فلاديمير بوتين، وسيصبح النظام الدولي متعدّد الأقطاب أكثر وضوحاً أثناء الحرب على سورية، ولكن المكوّنات كانت موجودة قبل عام 2011، وتمتد إلى الخطأ الاستراتيجي لحرب العراق عام 2003 وعواقبها التي لم يُحسب لها حساب، وسيكون لهذه البنية عواقب ملحوظة في سورية.

تدخل القوى الإقليمية في سورية
إن القرار الأكثر أهمية في فترة الأزمة السورية هو قرار السيد الرئيس بشار الأسد بدحر المجموعات المسلحة وقهرها، وهو ما وضع سورية على طريق الحرب بحكم ارتباط هذه المجموعات بقوى خارجية، إقليمية وعالمية، إذ أن هذه المجموعات تمثّل أدوات لتلك القوى لتحقيق أهدافها، وهو ما يوصلنا إلى القرار التالي المتمثّل برعاية القوى الإقليمية، كتركيا والسعودية، المجموعات المسلحة بدل البحث عن تسوية، ويتبع ذلك قرار الولايات المتحدة بالحدّ من تدخلها في الحرب إلى حين ظهر تنظيم “داعش” عام 2014، يليه قرار روسيا بالتدخل لدعم الحكومة السورية الشرعية في وجه الطغيان الأمريكي الذي اتخذ من “داعش” ذريعة للتدخل في سبيل تحقيق مآربه.
لعبت حماسة القوى الإقليمية لإرسال الأموال والأسلحة والدعم للمجموعات المسلحة في السنوات الأولى من الأزمة دوراً رئيسياً في تصعيدها السريع إلى حروب متعدّدة، فعلى سبيل المثال، تلقت ما يُسمّى “المعارضة” في كانون الأول من عام 2011 تشجيعاً مباشراً وغير مباشر من تركيا والسعودية وقطر لتواجه الحكومة السورية، وسمحت تركيا لما يُدعى “الجيش الحر” ببناء نفسه على أراضيها في تموز عام 2011، وقامت قطر بنقل الأسلحة للمتمردين عبر حلفائها الليبيين في أوائل تشرين الثاني عام 2011، ووعدت بتقديم دعم بقيمة 100 مليون دولار في شباط عام 2012، واستخدمت السعودية أدواتها في البلاد لإيصال الأسلحة للمتمردين في شباط عام 2012، أي في الشهر نفسه الذي حثّت فيه هي وقطر المجتمعَ الدولي على دعم المتمردين، وهذا يتناقض مع تخليهم السريع عن مبادرة السلام الخاصة بجامعة الدول العربية بعد شهر واحد من طرحها في كانون الأول عام 2011.
صاغت التبدلات البنيوية المذكورة أعلاه هذه الإجراءات، وأظهرت قطر والسعودية وتركيا أنها تناصر الحرب، مدفوعة بفكرة أن العنف هو أسرع الطرق وأكثرها فعالية لتحقيق مآربها، وتعزّز نشاط قطر وتركيا عبر التحولات البنيوية في عامي 2003 و2011، ما أعطى كلاً منهما الثقة للتدخل.
كانت مكانة إيران أقل تأثراً بالتبدلات البنيوية، إذ كانت حليفاً لسورية منذ عام 1979 ضمن محور المقاومة، وكان من المحتمل أن ترسل طهران المساعدة إذا طُلب منها بغض النظر عن التغييرات التي حدثت بعد عام 2003، لكن تحوّل العراق إلى حليف لإيران سهّل على إيران التصرف، فقد منح الطائرات الإيرانية الوصول إلى المجال الجوي العراقي بعد كانون الأول 2011 ما أدى إلى تسهيل وصول الإمداد إلى دمشق.

واشنطن وموسكو
كان أوباما مقيداً بقوى بنيوية، لذا لم يستطع أن يأمر بشنّ هجوم عسكري مباشر على سورية بقيادة الولايات المتحدة، كما فعل جورج دبليو بوش في العراق، ذلك لأن إخفاقات عام 2003 بيّنت لأوباما أن استخدام الجيش الأمريكي في حرب على سورية لن يثمر عن نتائج إيجابية، إلى جانب أن الشعب لم يكن في صفه كما كان بعد 11 أيلول، وكان الاقتصاد ضعيفاً بعد الأزمة المالية.
كان الحلّ الأكثر جدوى في نظره هو زيادة الدعم الأمريكي لقوات المتمردين، بما في ذلك الدعم الجوي، كما حدث في ليبيا في عام 2011، لكن أوباما لم يثق بالمتمردين بشكل كافٍ، كونهم يتألفون من مجموعات من الإرهابيين المتشدّدين، لذا اعترض مرتين على خطة تسليح طرحتها هيلاري كلينتون وديفيد بترايوس في عام 2012، رغم أنه في النهاية تبنّى الخطة وأرسل أسلحة محدودة في ربيع 2013.
وهنا ظهر عاملان بنيويان، أولهما، تفاقم وجود الجهاديين إلى حدّ كبير بسبب حرب العراق عام 2003 ودعم الإرهابيين في سورية، وثانيهما أن نمو قوة وتأثير اللاعبين الإقليميين أمثال قطر يعني أن الولايات المتحدة عملت من أجل احتكار تدفق الأسلحة، في الواقع، عندما دعمت الولايات المتحدة الإرهابيين في ليبيا، لم تتمكّن من منع قطر والإمارات من دعم الجماعات المتنافسة وزعزعة استقرار ليبيا ما بعد القذافي، لذا أعاقت الكارثة الليبية، التي تسبّب بها التدخل الأمريكي، أوباما عن ارتكاب الفعل نفسه في سورية لئلا يقاسمه اللاعبون الإقليميون الغنيمة لكن دون جدوى، كما أدرك أوباما أيضاً أن للولايات المتحدة سجلاً سيئاً في تسليح الوكلاء منذ عقود مضت.
وقرّر أوباما عدم المضي بهجوم مباشر على الحكومة السورية في أيلول عام 2013 بعد أن زعم أنها استخدمت أسلحة كيميائية، وقرّر إنشاء تحالف دولي ضد “داعش” في العراق وسورية في عام 2014، وهذا يشير إلى وجود سطوة كبيرة، كان الجيش الأمريكي وموظفو البيت الأبيض مستعدين تماماً لتوجيه ضربة صاروخية لدمشق في عام 2013، ليؤجلها أوباما في اللحظة الأخيرة.
في النهاية، أوضح أوباما أنه سيزيل الأسلحة الكيميائية بشكل أكثر فعالية من سورية باتفاق مع الحكومة السورية وروسيا، لكن كل هذا لم يكن يرجع إلى السطوة وحدها، بل إلى العوامل البنيوية الأكثر أهمية، لأن الأهمية العالمية المتزايدة لروسيا جعلتها شريكاً صالحاً لتيسير التوصل إلى اتفاق مع الحكومة السورية.
وكان القرار الرئيسي الأخير هو إرسال موسكو لقواتها الجوية إلى سورية في عام 2015، بدعم من القوات الخاصة والشرطة العسكرية، كان هناك العديد من الدوافع وراء التدخل الروسي والتي تظهر التفاعل الحاصل بين العوامل المحلية والخارجية، كالرغبة في احتواء الإرهابيين المتطرفين الذين قد يتسلّلون إلى جنوب روسيا، والتأكيد على عودة السياسة الخارجية الروسية إلى المنطقة.
إن عامل السطوة هنا قويّ جداً، فمن الناحية البنيوية، ظهر النظام العالمي متعدّد الأقطاب الناشئ الذي سمح لروسيا بأن تكون أكثر نشاطاً بفعل عوامل خارجة عن سيطرة روسيا: الطفرة الاقتصادية الصينية في الألفية الثانية والامتداد المالي والإمبراطوري للولايات المتحدة، لكن الطريقة التي أدخلت بها موسكو نفسها في هذا النظام تدين بالكثير لسياسات زعيمها بوتين البارعة، حيث استجاب بوتين بقوة للبيئة الإقليمية المتغيّرة، وكانت حرب جورجيا عام 2008 مقدّمة لمزيد من العمليات العسكرية والسرية، بما في ذلك حملة أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم في 2013-2014، والتدخل في سورية في عام 2015.

البنية تتفوق على السطوة
أثرت الإجراءات التي اتخذها القادة الدوليون في الحرب الدائرة في سورية وكان لشخصياتهم أهمية أيضاً، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحمد أمير قطر طموحين يؤثران التدخل الهدام، في حين كان القادة الآخرون أقل تهوراً، وبالمثل، كان أوباما حذراً غريزياً، في حين كان بوتين حازماً في قراراته، لكن الخيارات التي كانت متاحة لهم مكّنتها البيئة البنيوية أو قيدتها، لم يتمكن أردوغان وحمد من التصرف إلا لأن ثغرة فتحت أمامهما في النظام الإقليمي متعدّد الأقطاب الناشئ، وكان أوباما حذراً بسبب التمدّد الإمبريالي الأمريكي المفرط، وشعر بوتين بأهمية التصرف بحزم بسبب التراجع البنيوي للولايات المتحدة، في بعض الحالات، تبدو البنية مهيمنة بشكل خاص.
وشكّلت القرارات الفردية نتائج معينة، مثل قرار أوباما إلغاء الضربة العسكرية في عام 2013 أو قرار بوتين بالتدخل في عام 2015، ومع ذلك، بدا أن الاتجاهات العامة كانت موجّهة أكثر حسب البنية، كان من المرجح أن يدعم بوتين الحكومة السورية، حتى لو كان شكل التدخل خاصاً به، وحقيقة أن ترامب لم يصعّد بشكل كبير من سياسة الولايات المتحدة تجاه سورية، رغم بغضه لأوباما، تُعزّز فكرة أن البنية هي التي دفعت ردود الأفعال على هذه الحرب، لذا تبدو الظروف البنيوية الإقليمية والعالمية أكثر أهمية من السطوة في تحريك الحرب في سورية.