دراساتصحيفة البعث

إمبراطورية النفط الأمريكية الجديدة تبدأ بالأفول

ترجمة وإعداد: لمى عجاج

على مدار العقد الماضي فاجأت الولايات المتحدة العالم بعد عقود من الركود النسبي في إنتاج النفط لتصبح أكبر منتج للنفط في العالم بما يتجاوز روسيا والمملكة السعودية، حيث بلغ إنتاجها مؤخراً 12.1 مليون برميل يومياً، ففي تشرين الأول من عام 2018 أصبحت الولايات المتحدة مصدراً صافياً للنفط لأول مرة منذ عقود، لكن الآثار الجيوسياسية سارعت في كبح طفرة الطاقة في عالم محكوم بقوة النفط في تحديد نمو اقتصادياته، وتعزى أسباب هذه الزيادة في إنتاج النفط إلى استغلال ما يُسمّى بالزيت الصخري وهو الزيت غير التقليدي الموجود في التكوينات الصخرية، حيث توقعت وزارة الطاقة الأمريكية ارتفاعاً قد يصل إلى 8.8 ملايين برميل يومياً من النفط الصخري الأمريكي وحده، وهو رقم قياسي جديد، لكن وعلى الرغم من هذه الزيادة المفاجئة التي نشهدها اليوم مع بداية “طفرة الصخر الزيتي” إلا أنها وبالترافق مع هذا الصعود فإنها معرّضة للانهيار بالسرعة نفسها التي صعدت فيها بفعل الآثار المترتبة على السياسة الخارجية الأمريكية والجغرافيا السياسية والاقتصادية.

هل ستنجح ثورة التكسير؟

إن فكرة استخراج النفط أو الغاز الطبيعي المستخرج من الصخر الزيتي كانت معروفة منذ عدة سنوات، ومع هذا فإن أول دخول للصخر الزيتي أو الزيت المشدود، كما هو معروف في الاستخدامات الاقتصادية، كان مع إدخال تقنيات الحفر الأفقية الحديثة التي تزامنت مع وصول سعر النفط إلى 100 دولار للبرميل أو ما يزيد وكان هذا قبل عقدين من الزمن. في التكسير الهيدروليكي يتمّ حقن الزيت المستخرج من الصخر الزيتي على عمق آلاف الأقدام بمزيج عالي الضغط من الماء ممزوج بالكثير من المواد الكيميائية والرمال من أجل استخراج الوقود، غير أن هذه التقنية في تفجير الرمال قد تؤدي بطبيعة الحال إلى حدوث تشققات في الأرض، ربما تتسبّب في تدفق الزيت إلى خط أنابيب النفط وإلى إمدادات المياه فضلاً عن تلوث البيئة.

يبلغ معدل الحفر الفعلي للبئر الصخرية فقط نحو 30-40٪ من التكلفة الإجمالية، ما يُقدّر بنسبة 55-70٪ من العمل المطلوب تنفيذه، ومؤخراً قدّرت شركة الاستشارات النفطية المستقلة “وود ماكنزي” أن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك نسبة 60٪ من جميع احتياطيات الصخر الزيتي القابلة للاستخدام اقتصادياً بأسعار النفط البالغة 60 دولاراً للبرميل أو أقل بعد أن حظيت هذه الصناعة بالاهتمام وأصبح استخدامها مرغوباً، فقد بلغ السعر الحالي لخام غرب تكساس الوسيط  نحو 58 دولاراً للبرميل، وهو السعر الذي كان عليه قبل أشهر، ما يعني أن السعر لم يرتفع كما توقع الكثيرون على الرغم من الاضطرابات الحاصلة في فنزويلا وإيران ودول الخليج العربي، مما يضع إنتاج آبار الصخر الزيتي والذي يتركز بمعظمه اليوم في حوض بيرميان في غرب تكساس أو حوض باكين في نورث داكوتا عند نقطة غاية في الحساسية. وعندما قرّرت المملكة السعودية ومنتجو أوبك العرب إغراق السوق بالنفط الرخيص في عام 2014 كانت النتائج كارثية على دول أوبك مالياً، حيث سمحت الابتكارات التقنية الحديثة للشركات الأمريكية بالوصول إلى احتياطات كبيرة من النفط الصخري، هذا إلى جانب سياسة سعر الفائدة الفيدرالي الصفرية (ZIRP) الذي جعل الاقتراض لإنتاج النفط مغرياً للشركات الصخرية، اليوم وبعد عامين من سياسات زيادة سعر الفائدة الفيدرالية التدريجية بدأت شركات الصخر الزيتي تظهر استياءها من الضغوط الكبيرة.

المشكلات الاقتصادية

ما نجهله هو حقيقة أنه وعلى الرغم من كل التطورات التكنولوجية والأنظمة الاقتصادية، فإن صناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة بمعظمها لم تحقّق بعد الأرباح المتوقعة منها، ففي المرحلة التي يبدو فيها أن نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي يمرّ في منعطف مظلم، سواء في الصين أو في الاتحاد الأوروبي أو في الأسواق الناشئة مثل البرازيل أو الأرجنتين أو تركيا، فإنه وعلى ما يبدو أن شركات النفط الصخري في الولايات المتحدة تواجه منعطفاً أكثر ظلمة، فقد كان من المفترض أن يكون عام 2018 وفقاً لتوقعات وكالة الطاقة الدولية هو العام الذي ستحقّق فيه صناعة الصخر الزيتي معدل ربح صافياً جيداً في نهاية المطاف بعد كل الجهود المبذولة، وذلك ما عبّرت عنه وكالة الطاقة الدولية في أوائل عام 2018 عندما أشارت إلى أن “ارتفاع الأسعار والتحسينات التشغيلية عملت على وضع قطاع النفط الصخري في الولايات المتحدة على المسار الصحيح لتحقيق التدفق النقدي الحر الإيجابي في عام 2018 لأول مرة على الإطلاق”.

ومنذ بداية استخدامه وحتى انهيار الأسعار في السعودية، وهذا من عام 2000- 2014، ساهمت شركات النفط الصخري في الولايات المتحدة، وفقاً لتقديرات وكالة الطاقة الدولية، بتوليد نوعٍ من السلبية في تراكمية التدفق النقدي الحرّ لأكثر من 200 مليار دولار، فبعد الأزمة المالية لعام 2008 تدفقت الأموال على استخدام النفط الصخري وادّعت الشركات أنه وبمجرد توفر البنية التحتية فإن معدل الأرباح سيبدأ بالتدفق والارتفاع، لكن هذا لم يحصل. فعلى الرغم من ارتفاع أسعار النفط العالمية لأكثر من عامين فقد كان لدى نحو 33 شركة من الشركات العامة المساهمة في الصخر الزيتي تدفق نقدي سلبي بلغ نحو 3.9 مليارات دولار في النصف الأول من عام 2018، لكن اقتران الأحداث الذي جمع بين توتر العلاقات مع إيران والاضطرابات في فنزويلا مترافقة مع توقعات النمو في الاقتصاد الأمريكي ساهمت في توضيح حقيقة الأمر للمستثمرين في صناعة النفط الصخري ولأصحاب البنوك، وهي أن عام 2019 سيكون العام الأخير من الأرباح الصافية، واليوم مع بقاء أسعار النفط عالقة على السعر نفسه ومع آفاق التباطؤ الاقتصادي الحاصل في الآونة الأخيرة ليس فقط في الولايات المتحدة فحسب بل في العالم، فإن العديد من المقرضين من البنوك والمستثمرين في صناعة النفط الصخري الأمريكي أصبح لديهم وجهة نظر مختلفة، فهم مستاؤون من تراجع عائدات استثماراتهم.

 

المزيد من التكلفة

الوسائل غير التقليدية كتعريف تعني أنها أكثر تكلفة في الإنتاج، حيث يستنفد النفط الصخري احتياطات أكبر على عكس مكامن النفط التقليدية،  ففي العديد من الحالات يفقد البئر الصخري 70٪ من الاحتياطات القابلة للاسترداد في السنة الأولى، وقد تمّ قياس حوض بيرميان بنسبة 22٪ سنوياً لتبرير تحصيل الديون عن طريق السندات السريعة وأشكال أخرى للإقراض لمواصلة الإنتاج، حتى أن الشركات الصخرية ذهبت إلى أبعد من ذلك لتلجأ إلى ما يُسمّى بـ”البقع الحلوة” وتوقعت الأرقام المتفائلة في المستقبل. بيد أن الرئيس التنفيذي لإحدى أكبر الشركات الرائدة في مجال الموارد الطبيعية ويُدعى سكوت شيفيلد حذّر في معرض شرحه لأرباح الربع الثاني من عام 2019 من أن معظم النفط في ما يُسمى بـ”المواقع الحلوة” أو “المساحة الأكرية للأراضي”، قد تمّ استخراجه بجهود مضنية ومرهقة وعلى نحوٍ سريع، وذلك لمواجهة معدلات استنفاد الآبار الصخرية بأسرع ما يمكن، حيث لجأت الشركات إلى إجراء تغييرات فنية من حيث الرمال وقرب الحفر وغيرها من الوسائل، نظراً لأن آلات الحفر تُضطر للذهاب إلى مناطق مجهولة وكلما زاد الحفر أكثر كلما كلّف البرميل أكثر. وهنا أنذر تقرير صناعي جديد بدق ناقوس الخطر بعد قيام منتجي زيت النفط الصخري في حوض بيرميان والذي يعدّ الأغنى بتزوير أعدادهم أو الإبلاغ عن اكتمال حفر الآبار لجعل الأرقام تظهر على نحوٍ أفضل، وهذا يعني أن البئر​​ سيكون أعلى تكلفة بكثير للبرميل ولكنه سيكون أقل كفاءة، كما أشار الرئيس الاستشاري لـ كايروس والمدير التنفيذي لشركة شلمبرغير أندرو جولد إلى أنه في حوض بيرميان بالتحديد كان الرمل الناقص أقل من 9.2 مليارات رطل والماء أقل من 12.5 مليار غالون هذا يعني الكثير من الرمال والكثير من الماء، ويدلّ على أنه في مرحلة ما ستقوم الشركات باستيراد الرمال من الصحارى العربية، أي أن التكاليف البيئية للتكسير المستخدم في صناعة النفط الصخري من حيث المياه والتلوث والزلازل التي قد تتسبّب فيها بالغة الخطورة وتحتاج إلى العديد من الحلول.

وتشير دراسة حديثة حول إنتاج النفط الصخري أُجريت من قبل ديفيد هيوز، وهو جيولوجي النفط الذي تابع هذه الصناعة عن كثب، إلى أنه مع انخفاض الإنتاجية لكل بئر كما هو الأمر في بعض المناطق مثل نورث داكوتا ستضطر شركات النفط إلى ضخ المزيد من الأموال على الحفر، وفي النهاية سيصبح الحفر غير مربح وسينخفض النشاط في هذا المجال مؤدياً إلى تراجع الإنتاج. وبحسب الأرقام فقد أنفقت الصناعة 70 مليار دولار على حفر 9،975 بئراً في عام 2018 وذلك على حدّ قول هيوز مع تخصيص 54 مليار دولار للنفط. وقال هيوز إنه ينبغي أن تكون أسعار النفط عالية جداً كي يكون الحفر في هذه المقاطعات الأقل إنتاجية مجدياً اقتصادياً، أضف إلى ذلك فإن جميع الديون الضخمة لشركات النفط الصخري باتت مشكلة متنامية، وذلك بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”، فقد بلغت قيمة الديون المستحقة تسعة مليارات دولار ستستحق خلال النصف الثاني من عام 2019، كما أن البنوك أصبحت متردّدة بمواصلة التمويل في اقتصاد ضعيف، الأمر الذي قد يؤدي إلى زيادة نسبة الديون التي قد تصل إلى 137 مليار دولار بين عامي 2020 و2022 وهي الديون التي تمّ تحملها للبقاء على قيد الحياة بعد انهيار سوق النفط بين عامي 2014-2015، فضلاً عن إمكانية انخفاض عدد المنتجين على الرغم من أن عملاقة مثل إكسون موبيل قد تنجو بعد أن قلّصت كلفة آبارها بنسبة 25 بالمائة ورفعت من إنتاجها الأساسي بنحو 60 في المائة.

إذا كانت مناطق إنتاج النفط الصخري الرئيسية قد بدأت بالفعل بالانهيار، وإذا كانت معدلات الانخفاض بحق على وشك التسارع بشكل كبير خلال السنوات 2-3 القادمة، فإنه سيترتب على ذلك الكثير من الآثار السلبية على السياسة الخارجية للولايات المتحدة وكذلك على الاقتصاد، ولعلّه العامل الرئيسي وراء تصرفات واشنطن الأخيرة في الشرق الأوسط وحتى في فنزويلا، فقد كانت أمريكا مدفوعة بإحساس أنها يجب ألا تعتمد على النفط الأجنبي فقط، وأنه يتوجب عليها تحمّل المزيد من المخاطر الجيوسياسية، فالنفط والازدهار الصخري الرائع هو ما أعطاها هذا الانطباع، وبعد أن بدأت إدارة ترامب في عام 2017 باعتبارها واحدة من أكثر الدول المحبة للنفط في التاريخ الحديث باتخاذ الإجراءات اللازمة، حيث عُيّن ريكس تيلرسون الرئيس التنفيذي لشركة إكسون موبيل وزيراً للخارجية، وترأس حاكم ولاية تكساس المحب للنفط ريك بيري وزارة الطاقة وتمّ تسمية آخرين ممن فضّلوا توسيع صناعة النفط الصخري واعتبروها أولوية وطنية، لكن ماذا لو بدأ مخزون النفط الصخري المحلي بالتلاشي فجأة؟!. إنه على الأغلب سوف يتسبّب بالمزيد من الصدمات الصاعقة الجديدة التي سيصل تأثيرها إلى جميع أنحاء العالم، في الوقت الذي تأتيه فيه الصدمات من كل اتجاه.

إنها ليست نهاية عصر النفط ولكنها قد تكون قريباً نهاية طفرة النفط الصخري في الولايات المتحدة الأمريكية التي تتغذى على جبالٍ من الديون والدمار البيئي بأبشع مظاهره، كما سيكون هنالك الكثير من الآمال والطموحات الأمريكية، وهذا ما من شأنه أن يقود إلى صدمة عالمية في أسعار النفط قد تساهم في تراجع الاقتصاد بشكلٍ دراماتيكي رهيب.