اقتصادصحيفة البعث

لا الشركات تبني ولا جهات التمويل تمول.. متى وكيف لقطاع التشييد أن ينطلق؟! الحاجــــة إلــــى التمويــــل هائلــــة جــــداً حتـــى مـــع وفـــرة كتـــل مصـــرفية جاهـــزة للإقــــراض

 

 

ثمة مشكلة سكن تتدحرج فتكبر، على طريقة كرة الثلج، وهي موجودة فعلياً قبل الأزمة، بيد أن الأخيرة زادت هذا التدحرج تسارعاً، جراء فقدان الكثير من الأسر لمساكنها التي دمرتها الحرب، فضلاً عن زيادة الطلب المدفوعة بالنمو السكاني لمجتمع يوصف بأنه من أكثر المجتمعات فتوة، حيث الشريحة الأسمك ديموغرافياً هي من الشباب، وهكذا ارتفع عدد طالبي المنتج السكني، وقل عارضوه، في وقت يستمر فيه تقاذف الكرة بين جهات التطوير والتمويل والمستثمرين وتلك المالكة للعقار، وفي المحصلة.. لا رحى تنتج طحيناً..!

تكوين أسر.. مساكن جديدة
يعد تكوين أسر جديدة، إثر الزواج، هو المحرك الرئيس للطلب على المساكن، ومع تغير نمط حياة السوريين في العقود الأخيرة، يحرص الأثرياء وميسورو الحال على حيازة أكثر من مسكن، وفي غير منطقة، فضلاً عن الشراء بقصد الادخار طويل الأمد؛ فالعقار مضمون العائد والمردودية؛ لأنه من أكثر الأوعية الاستثمارية استقراراً وأقلها تأثراً بتذبذب الأسعار، فالاستثمار العقاري كان وما زال محكوماً بالقاعدة الذهبية (العقار يمرض ولكن لا يموت).
وفي موازاة الطلب المتزايد على المسكن، وعدم تكافؤ العرض معه، تكفل السكن العشوائي بتلبية هذا الطلب، تحت تأثير ارتفاع أسعار المساكن، وقلة مصادر التمويل، وغياب المشاريع الإسكانية الكبيرة والمؤثرة.. وحتى عام 2010 كان الرقم الأكثر تداولاً للطلب السنوي على المساكن بحدود 50-60 ألف مسكن جديد، بيد أن أوساطاً عقارية وتمويلية تقدر نمو هذا الطلب حالياً إلى 100 ألف، علماً بأن هناك تقديرات تبالغ في رفع هذا الرقم، الذي من الصعب الوقوف على تحديد دقيق له، نظراً للهجرة الداخلية والخارجية، وتزايد العشوائيات دخل المدن وفي الضواحي..

تنازع الأدوار وغياب النتائج..
يتشارك عديد الأطراف في التصدي لمشكلة نقص المنتجات السكنية بأنواعها كلها، والبداية من هيئة التطوير والاستثمار العقاري، التي لديها جانب تهيئة البيئة التنظيمية والاستثمارية للمشروع، ومن ثم هيئة الإشراف على التمويل العقاري، حيث ترشد المستفيدين إلى مصادر التمويل العامة والخاصة، وثالث هذه الأطراف الجهة المالكة للعقار، وهي غالباً إحدى الوزارات، ورابعاً هناك المستثمر (المطور العقاري)، الذي قد يكون شخصاً طبيعياً أو اعتبارياً، وخامساً المستهدف بهذه المنتجات، التي قد تكون سكنية أو خدمية أو ترفيهية، وأخيراً هناك البيئة التشريعية والقانونية لمثل هذه المشاريع.
يقول المدير العام للهيئة الدكتور أحمد الحمصي: إن التطوير العقاري يسهم، على نحو فاعل، في تحفيز الاقتصاد الوطني، من خلال عمليات التشييد الكبيرة، وصناعة مواد البناء، إضافة لقدرة هذا القطاع على تنشيط وتحفيز العمل لعديد القطاعات الاقتصادية والخدمية الأخرى، فالمشروع الواحد يحرك نحو 150 مهنة، مبيناً أن هناك 61 شركة تطوير مرخصة أصولاً، ست منها عامة، فيما البقية خاصة محلية ومشتركة مع مستثمرين خارجيين، و26 مشروعاً في المناطق والمحافظات المختلفة، 12 منها ذات أولوية خاصة، إضافة لمشاريع أخرى قيد الدراسة، متوقعاً أن تؤمن هذه المشاريع مساكن لنحو مليون نسمة.

الشركات (السائلة)..!
زار مستثمرون صينيون، أمس الأول، الهيئة للاطلاع على المشاريع المطروحة عن كثب، وذلك في سياق استطلاع شركات عربية وأجنبية بين الفينة والأخرى السوق العقارية المحلية، بيد أن أياً منها لم يبدِ نشاطاً يذكر على الأرض، وهو ما يؤكده الحمصي، حيث إن كثيراً من هذه الشركات تطلب من الهيئة بعض الاستفسارات والتساؤلات حول آلية العمل في المناطق المطروحة للاستثمار، وطرق التقدم للمشاريع الجديدة وتنفيذها، ثم تذهب ولا تعود، ما حدا الهيئة على تسميتها بـ”الشركات السائلة”..!
بواقعية شديدة، لا يمكننا فهم أسباب عزوف هذه الشركات عن الاستثمار والدخول الجاد في مشاريع التطوير العقاري، إلا من زاوية غياب عناصر الجذب الاستثماري.. حجم المشاريع.. آليات التمويل.. الضمانات.. البيئة التشريعية.. إلخ. وهنا لا بد من التوقف من قبل الهيئة وغيرها عند هذه العناصر ودراستها وتحليلها على نار هادئة، فالثابت في عالم الأعمال أن رأس المال لا يترك فرصاً استثمارية جاذبة إلا ويستثمرها، ولكنه في الوقت نفسه يريد طريقاً ممهدة خالية من أية عوائق، وهنا تأتي مهمة “تعزيل” مثل هذه العوائق.

معضلة التمويل..
تمثل مشكلة نقص التمويل، إلى جانب عدم توافر العقارات اللازمة لإحداث المشاريع، أبرز معضلتين تحدان من انطلاقة السوق العقارية، وتكاد المصارف العامة، باستثناء العقاري نوعاً ما، تسجل غياباً تمويلياً كاملاً، كما لم تسهم المصارف الخاصة في تقديم أي تمويل ذي شأن، وهذا يقودنا إلى تصريح وزير المالية الدكتور مأمون حمدان قبل أيام، حيث أعلن عن ودائع لدى المصارف العامة تصل إلى 2400 مليار ليرة، وأن جزءاً مهماً منها جاهز للإقراض، إلى جانب ودائع المصارف الخاصة.. إذن ما الذي يمنع أن تمضي هذه المصارف في تأدية دورها التمويلي..؟! هي وحدها من يملك الإجابة.
وكشف نائب حاكم المركزي محمد حمرة، في وقت سابق، عن أن حجم موجودات المصارف بلغ 7511 مليار ليرة، حيث زادت قياساً مع العام الفائت بـ 13 بالمئة؛ ما يساعدها على الإقراض، ولفت إلى أن المصارف تعاني فائضاً في السيولة، وليس نقصاً، ما يهيئ فرصاً جيدة من أجل إعادة الإعمار.
وتشكل هيئة الإشراف على التمويل العقاري مظلة لشركات التمويل، حيث يتركز دورها في إرشاد المستثمرين إلى الجهات الممولة، وتحفيز المدخرات الصغيرة والمتوسطة لدخول القطاع، وتنظيم مزاولة مهنة التقييم العقاري في سوق يعمل فيها نحو ألف مقيم، ودعم تأسيس شركات تمويل أو إعادة تمويل، مساهمة عامة أو مغلقة، ومن ثم إدراجها في سوق دمشق للأوراق المالية؛ ما يمنح البورصة تنوعاً مهماً في قطاعاتها، وهذا يحتاج لتضافر جهود الهيئة مع جهات مثل هيئة الأوراق والأسواق المالية وهيئة الإشراف على التأمين ومصرف سورية المركزي وغيرها..

دور مهم للمقيمين العقاريين
تعتمد جهات التمويل بشكل كبير على المقيمين العقاريين، سواء لتقييم ضمانات مصرفية جديدة أم للتوسع في أخرى قائمة، حيث يجب أن تشكل 150 بالمئة من حجم القرض، فيما يشكل 40 بالمئة من قيمة العقار على الهيكل (على العظم)، و20 بالمئة من قيمته جاهزاً (مكسي).
يقول المقيم إحسان طرابيشي: إن نسبة المتعاملين في السوق العقارية الذين يستعينون بخبرات المقيمين لا تتجاوز 30 بالمئة في حال البيع والشراء، فعدد المقيمين في دمشق لا يتجاوز 300، وأن العشرات منهم مرخصون من قبل الهيئة، أما عدد الذين يزاولون المهنة في دمشق فعلياً، فهم أقل من 30 مقيماً، أغلبهم من المزاولين القدامى.

الاهتمام بمواد البناء
وفي سياق تسريع عملية إعادة الإعمار، دعا المستثمر المغترب محمد عكش إلى الاهتمام بالصناعات الداعمة لقاعدة مواد البناء، وتوفير بدائل محلية لمنتجات كان يمكن أن تكون مستوردة؛ ما يسهم في اختصار الوقت اللازم للبناء، لافتاً إلى تأسيسه مصنعاً لإنتاج نوع خاص من البلوك بطاقة إنتاجية 10 آلاف بلوكة يومياً، سيعتمد على مواد طبيعية وقوالب مصنعة محلياً، علماً بأن هناك أربعة مصانع تنتج مثل هذا البلوك على مستوى المنطقة، منها المصنع الجاري إنشاؤه في البلاد.

ماذا بقي إذن..؟!
تحد من انطلاقة السوق مشكلة محدودية الأراضي، وتنازع الملكية عليها (إن وجدت)، والشروط شبه المستحيلة الواجب توافرها فيها، كأن تكون خارج مناطق المنع والحرمات (مناطق عسكرية، مطارات، موانئ، ينابيع، غابات، أراضٍ مشجرة، آثار، طرقات، مجاري سيل، مناجم، مقالع، آبار النفط، خطوط توتر عالٍ، أراضٍ حراجية..)، وألا تكون قابلة للزراعة، وأن تكون خارج المناطق ذات الصفة السياحية، وألا تشمل منطقة تنظيمية محدثة، وأن تكون ضمن مساحة محددة.. والسؤال الوجيه: أين سنجد هذا العقار (المستحيل)..؟!
أحمد العمار