تحقيقاتصحيفة البعث

القوانين تمنعها ولكن.. “الأركيلة”.. تسلل سريع إلى حياة الأطفال.. انتهاك لبراءتهم.. وتجاهل مجتمعي لخطورة أضرارها

استوقفتني في إحدى الحدائق العامة منافسة من نوع جديد بين مجموعة من الأطفال، أو بالأحرى طلاب المدارس الذين يتنافسون فيما بينهم على نفث دخان “الأركيلة”، فكانوا يتناوبون على “نبريشها” بطريقة هستيرية، ويصفقون للفائز الذي يستطيع تحقيق كثافة دخانية أكبر من غيره، طبعاً هذه المنافسة تجسّد واقع الحال في مجتمعنا الذي لا يبالي بما يحصل، والدليل أنه لم يتحرك أحد من المتواجدين على مقاعد الحديقة لتوجيه وتوعية هؤلاء الأطفال، بل كان الجميع يراقب ويبتسم للمشهد دون أية ردة فعل.

لا شك أن تجاهل هذه الظاهرة ساعد وسهّل بشكل كبير عملية اقتحام “الأركيلة” لعالم الأطفال، فعبثت به كالنار بالهشيم، واخترقت جلساتهم التي تحلو دونها، وباتت بأدخنتها وقرقعتها الجليس الأول الذي لا يفارق أيامهم، عدا عن الأعباء المادية التي تفرضها على الأهل، سواء لجهة الأضرار الصحية التي تسببها، أو لجهة تكاليف شراء هذا السم اللذيذ الذي يستسيغه الجميع.

 

أول الغيث قطرة

لم تتطور الظاهرة لدى الأطفال بمعزل عن العائلة ونمط حياتهم، فعندما ينشأ الطفل أو المراهق، ويعتاد على مظهرها ووجودها الدائم في المنزل، ويستسيغ رائحتها، هنا يبدأ بتقليد عائلته، ويتبنى ثقافته، ويقتنع بكونها نوعاً من التسلية، وتمضية أوقات الفراغ، دونما إدراك لمخاطرها، ولتأثيرها السلبي عليه من كل النواحي.

فاديا مهنا، أم لثلاثة أطفال (40 عاماً)، تحدثت عن تجربتها حيث قالت: في بداية الأمر جربت تدخين “الأركيلة” مع جارتي كونها تساعد في تمضية الأوقات، وخاصة بالفترة الصباحية، فأكون وحيدة بالمنزل بعد توجه أطفالي للمدرسة، واعتدت عليها، وأصبحت جليستي حتى في سهرات العائلة، ولكن بمرور الأيام لاحظت ميل أطفالي لها، ورغبتهم بتجربتها وإصرارهم على معرفة مذاقها، وهنا تشجعت واتخذت القرار بتركها لأكون قدوة لأطفالي.

إذاً لكل طفل بيئة مساعدة تدعمه إما إيجابياً أو سلبياً، فيتأثر بها، وعندما يرى أحد أفراد عائلته سعيداً بتدخين “الأركيلة” سيرغب بها ويتطلع لتجربتها.

غير مدخنة

أما محمد حيدر، أب لطفلين (35 عاماً)، فكانت له حكاية مختلفة مع “الأركيلة” يقول: عانيت جداً بسبب “الأركيلة”، فولدي اعتاد عليها خارج المنزل، رغم أننا عائلة غير مدخنة، واضطرت إلى اصطحابه لاختصاصي نفسي حتى استطاع الإقلاع عنها.

وأضاف بأن الدور الأكبر في هذه المشكلة سيكون من واجب العائلة، فالطفل أو المراهق لم يصل بعد لمرحلة الاعتماد على الذات، أو اتخاذ القرارات المناسبة.

ومن ناحيته أمجد أحمد، أب لطفلين (31 عاماً)، أبدى حرصه على تدخين “الأركيلة” بعيداً عن الأطفال، فيتعمد تدخينها أثناء تواجد طفليه في المدرسة، أو في وقت نومهم، وأكد أنها عادة سيئة ويرغب بالإقلاع عنها حتى لا يؤثر على أطفاله، ولا يدفعهم لتقليده مستقبلاً.

وكانت لهالة علي، أم لطفل (30 عاماً)، حكاية أخرى مع “الأركيلة” فتقول: إنني معتادة على تدخين “الأركيلة”، لكن طبيبي أخبرني أنها ستؤثر سلباً على صحة المولود، وبسبب تعلّقي بـ “الأركيلة” اعتقدت أنها وساوس طبية، لكنني تفاجأت لاحقاً بوزن مولودي الهزيل، وندمت كثيراً وأقلعت عنها فور ولادتي.

للمقاهي حديث آخر

أصبحت “الأركيلة” الطلب المرافق لأي مشروب، والجليس المفضل بأوقات الوحدة، ومع كثرة النكهات وتنوعها جذبت مرتادي المقاهي لتجربتها، وهنا تكون البداية، فما بالك بالأطفال الذين بفطرتهم يرغبون بتجربة الجديد.

مصطفى الدباغ، أحد أصحاب المقاهي في منطقة ساروجة، أكد أنه يصادف خلال تواجده بالمقهى الكثير من الأطفال أو المراهقين الذين يرغبون بـ “الأركيلة”، وفي كثير من الأحيان يغادرون المكان لعدم تلبيته لطلبهم كونه مخالفاً لقرارات وزارتي الصحة والسياحة.

وشاركه الرأي أيهم الحملي، المسؤول عن مطعم “عبق الشام” بأن “الأركيلة” ظاهرة منتشرة عند الأطفال، وهناك إقبال كبير عليها من فئة الأطفال والمراهقين، لكنه يرفض ذلك، ويلتزم بالقوانين فقط.

الطامة الكبرى

لا شك أن “الأركيلة” أكثر ضرراً من السجائر، حيث ثبت أن مدخنيها يستنشقون كمية أكبر بكثير من مدخني السجائر نظراً لعملية الاستنشاق العميقة، وطول مدة الاستخدام، فجلسة تدخين “الأركيلة” تتراوح وسطياً بين 30- 60 دقيقة، أي ما يعادل تدخين علبة سجائر كاملة، وهذا ما أكده الدكتور علي محمود إسماعيل (اختصاصي في طب الأطفال) من خلال مقارنة بسيطة بين جلسة تدخين “الأركيلة” مقابل تدخين سيجارة واحدة فالمدخن وفقاً لأحدث الإحصائيات سيتعرّض لثلاث مرات أكثر من النيكوتين، و11 مرة أكثر من أول أكسيد الكربون، و25 مرة كمية من القطران، و10 مرات من الرصاص السام، وهذا ضرر كبير على جسد طفل أو مراهق، مشيراً إلى أضرار “الأركيلة” الفعلية التي تتشبع بأضرار مباشرة (قريبة المدى) مثل ارتفاع ضغط الدم، ومعدل النبض، ومشاكل في وظائف الرئة، وطرح البلغم، والنقص الحاد في أوكسجين الدم، وأضرار غير مباشرة (بعيدة المدى) تتصل بأمراض القلب، والأمراض التنفسية، وانخفاض كثافة العظام، وبالتالي تعرّض العظام للكسور بسهولة، والهشاشة أيضاً، ولا ننسى دورها بارتفاع معدل السرطانات، وخصوصاً سرطان الفم والحنجرة.

ونوّه الدكتور إسماعيل إلى أن المشاركة في تدخين “الأركيلة”، واستخدام “النبريش ذاته” بين الأطفال يزيدان نسب الإصابة بالأمراض المعدية، إضافة إلى ضرر أول أوكسيد الكربون الناتج عن احتراق الفحم المستعمل، وما له من تأثيرات سمية على الجهاز العصبي المركزي لدى الطفل.

بدوره الدكتور جلال الدين شربا (اختصاصي بالأمراض النفسية والعصبية) أبدى تخوفه من انتشار ظاهرة “الأركيلة” عند الأطفال لكونها مؤشراً خطيراً بالمجتمع، ناهيك عن أضرارها الجسدية والنفسية كونها إدماناً لا يختلف عن إدمان الكحول أو النيكوتين الموجود بالسجائر، وعزا سبب إقبال الأطفال والمراهقين عليها إلى مجموعة من العوامل، أهمها تقليد الأكبر سناً من أفراد العائلة والأقرباء، وكذلك الرغبة في إثبات شخصيتهم، وأنهم مسؤولون عن تصرفاتهم أمام أنفسهم، وأمام المجتمع، وأكد على حب الاكتشاف والفضول لدى الأطفال، ما يدفعهم لتجريب كل ما هو جديد، ونوّه إلى ضرورة توعية الأهل لأطفالهم ومتابعتهم دائماً، والإشراف على تصرفاتهم، وأن يكونوا خير قدوة لهم، فلا يمكن للعائلة أن تنهي أطفالها عن سلوك خاطىء وترتكبه أمامهم.

وشدد الدكتور شربا على أهمية وسائل التواصل الاجتماعي في المرحلة الراهنة، ودورها بتوعية كل أفراد المجتمع بخطورة هذه الظاهرة.

قرارات.. على الرف

لم تقصّر وزارة الصحة في أداء الدور المنوط بها، وخاصة في عام 2009، حيث صدر المرسوم 62 الذي ينص حسب مادته/2/ بمنع التدخين، وبيع منتجات التبغ وتقديمها في الأماكن العامة، وأكدت المادة /5/ على أصحاب المحال العامة أو مستثمريها الراغبين بالسماح بالتدخين أن يخصصوا مساحة من الأماكن غير المغلقة للمدخنين بنسب محددة من مساحة المحل العام، أما في البند د من المادة نفسها فتم التأكيد على منع تقديم “الأركيلة” لكل من هو دون سن الثامنة عشرة، ولن ننسى قرار وزارة السياحة رقم 1025 لعام 2010 وتم التأكيد في المادة نفسها على منع تقديم “الأركيلة” منعاً باتاً في الأماكن العامة المغلقة، وكذلك في المادة/ 6/ على منع تقديم “الأركيلة” لكل من هو دون سن الثامنة عشرة.

إذاً القانون واضح جداً فيما يخص تدخين الأطفال للـ “الأركيلة” في الأماكن العامة، لكن التنفيذ والتطبيق لايزال محدوداً وذلك لصعوبة الحد من هذه الظاهرة والإحاطة بها.

نصيحة لكل عائلة

يبدو أن المؤلف الأمريكي وين داير قد وجه نصيحة لكل عائلة بمقولته الشهيرة “سيرى أطفالك كل ما أنت عليه من خلال طريقتك في العيش وليس من خلال ما تقوله”، لذلك فعلينا، كأفراد في المجتمع، أن نساهم بالحد من هذه الظاهرة لدى فلذات أكبادنا بتضافر جهودنا في العائلة والمدرسة بتبني السلوكيات الصحيحة، والتركيز على نشر الوعي حول أنماط الحياة الصحية، وذلك بالتعاون مع الجهات المعنية.

يارا شاهين