ثقافةصحيفة البعث

هذا هو الفرق فقط

 

هل ما فعله الشاعر “طلال حيدر” يستحق فعلا كل تلك الحملة التي شنها ضد فعلته ملايين الناس ومن مختلف البلدان العربية؟ هل يستحق أن يوصف بالخائن والغدار ولاعب الحبال وعابد الدولار ووو، صفات أخرى لا تُحصى؟
انقسمت الأجوبة على مواقع التواصل الاجتماعي حول هذا الأمر، حتى وصل الأمر عند البعض حد التكفير، مسندهم ما جاء في القرآن الكريم، من وصف للشعراء، وذلك في سورة “الشعراء”: “وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ”، وهذا هذر سمج ممن ذهبوا مذهبه، فهو مماثل تماما لما جاء في سورة النساء، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ”، ووجه الشبه بينهما ليس في المعنى، بل في الفعل، أي اقتطاع عبارة من سياق كامل، لتخدم غرضا معينا، عدا عن كونه تطرفا غير مقبول ومرفوض دينيا وإنسانيا، إلا أن نسبة الذين وصفوا ما فعله بالصفات السابقة الذكر وغيرها، فاقت بأضعاف مضاعفة، نسبة المنافحين عنه وعن تاريخه الشعري الكبير؛ من باب: “ذاك الذي غنته فيروز، وهفت النفوس إلى ما يكتبه لتصفو بعذب شعره”، وغيرها من المبررات التي أطلقها من طلبوا أن نفصل شعره عن شخصه في أمر كهذا، معتبرين أن ما فعله بالتأكيد سيء، لكنه لا ينسف تاريخه الشعري، ولا يدل على عدم الأصالة في نتاجه، ثم ما الجديد في الأمر؟ الشعراء العرب ومنذ أزمنة طويلة، تبنوا هذا الغرض الشعري “المدح” بقصد التكسب به، وهذا ليس بالشأن الجديد على الشعراء عموما، ضاربين أمثلة عن أهم شعراء العرب قاطبة “المتنبي”، بكونه أيضا كان من شعراء البلاط، وهذه هي النقطة التي استفزتني في الموضوع برمته، رغم أنه ما من شيء يجمع بلاط سيف الدولة الحمداني، بـ بلاط الـ سعود، وشتان حقا بين الثريا والثرى، إلا أننا يجب أن نتريث عند هذه النقطة قليلا، وهنا لن نتحدث عن الفرق الكبير في القيمة الأدبية لنتاجهما الأدبي، والذي هو حتما لصالح المتنبي بما لا يُقارن أساسا، ليس مع “طلال” فقط، بل مع مئات كبار الشعراء على مرور الأزمنة، رغم الزمن الطويل الذي يفصل بينهما، أكثر من ألف عام، بل عن الغرض الشعري –المدح- أي التكسب من الشعر؛ فعندما نعرف من الممدوح، نعرف قيمة المادح وبالتالي صدقه في نتاجه الشعري من كذبه، أصالته من عدمها، وهكذا.
المتنبي جاء جل مديحه في “سيف الدولة الحمداني”، القائد الفذ الذي ألحق الهزائم الدامية والمتتالية بالقادة البيزنطيين، هزائم دفعت بعضهم إلى التخلي عن الحياة العسكرية والدخول في سلك الرهبنة أمثال القائد برداس، الذي تخلى عن أرفع منصب عسكري في الإمبراطورية البيزنطية ولجأ إلى الدير ليقضي بقية حياته راهباً، سيف الدولة لم يتخل، سواء وهو في ذروة انتصاراته أو انكساراته، عن تقاليد الفروسية وآدابها، والتي تجلت على سبيل المثال لا الحصر، في موقفه من الأسرى العرب والبيزنطيين، فبالنسبة إلى الأسرى العرب، انفق سيف الدولة جزءاً كبيراً من ثروته من أجل افتدائهم من أسر البيزنطيين، حتى أنه رفض أن يفتدي بن عمه، الشاعر والفارس “أبي فراس الحمداني” من الأسر دون الآخرين، رغم القصائد البديعة على لوعتها، التي كان يبعث بها من أسره، يسأله فيها أن يحرره، ورغم توسل والدة أبي فراس له، بأن يفدي ابنها، لكنه لم يستجب إلى ذلك، لأنه وجد أنه لا يجوز له، أن يستثني ابن عمه دون الأسرى العرب الآخرين، وما يريده هو افتداءهم جميعاً دفعة واحدة، وهذا ما حدث، حتى أن سيف الدولة، أشرف بنفسه على عملية تبادل الأسر. بينما كال طلال حيدر المديح لمن حارب أطفال اليمن وحرقهم، وصار عبدا بما تعنيه الكلمة عند العدو الفعلي للأمة العربية والإسلامية. أبو الطيب مالئ الدنيا وشاغل الناس تا الساعة، في مدحه لسيف الدولة –الاسم وحده يكفي فكيف المسمى-وطلال حيدر بما فعله مؤخرا من مدح للملك الذي ينطبق عليه عدة أبيات من شعر “أبو الطيب” -يا محاسن الصدف الطيبة-سنذكر أهمها: “وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ/وَما تُفلحُ عُربٌ ملوكُها عَجَمُ”؛ شاعر يتكسب من قائد عربي رصع التاريخ اسمه بأحرف من نور ونار، وشاعر يتكسب من مدحه لسفاح، لعمري سيذكره التاريخ أيضا، ولكن بالخزي والعار؛ قائد أفعاله هي من تمجدها أقلام الشعراء، وآخر يستجدي المديح بدولاراته الغارقة بدماء الأطفال. هذا هو الفرق فقط ولكم أن تقرروا إن كان هذا التشبيه يستحق أن يكون تشبيها حقا، بين من ينام ملئ جفونه عن شواردها، تاركا الخلق جرّاها يسهر يختصم، وبين من كتب “وحدن بيبقو متل زهر البيلسان، وحدهن بيقطفو وراق الزمان”، قائلا عنها إنها عن المقاومين ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين! فلسطين الذبيحة، تلك التي تخلى عنها ملكه، بل وباعها وهو من دفع الثمن.
تمّام علي بركات