ثقافةصحيفة البعث

إشكالية ترجمة المشترك اللفظي في القرآن الكريم

عندما نتحدث عن الترجمة عموماً ستواجهنا الكثير من المشكلات تتعلق بمدى الدقة والموضوعية والأمانة وبمدى تمكن المترجم، وعندما نتحدث عن ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات أخرى ستكون المشكلات أعقد وأكثر عمقاً لأننا نتحدث عما يحتويه هذا الكتاب المقدس من ثراء وتنوع وإعجاز على المستويات كافة، إضافة لخصوصيته ووجود الكثير من الكلمات التي تعددت فيها آراء المفسرين، من هنا كانت المحاضرة التي ألقتها د. لبانة مشوح في مجمع اللغة العربية بدمشق بعنوان: “إشكالية ترجمة المشترك اللفظي في القرآن الكريم”، بدأتها بمقدمة عن الترجمة عموماً وعن اختلاف أنواعها بحسب المادة المترجمة مع التأكيد أن لكل نوع خصائصه المميزة ومقوماته وشروطه التي يجب التقيد بها والعمل بموجب معاييرها ونواظمها، ومن بين تلك الأنواع الترجمة الأدبية التي تقوم من وجهة النظر التحليلية على جملة من الثنائيات تتجلى في ثنائية لغوية “اللغة المصدر التي يترجم منها واللغة الهدف التي يترجم إليها، “وثنائية الثقافتين وثنائية الأثر”التأثر والتأثير”، وبينت مشوح أن لكل لغة قواعدها ومكوناتها الثقافية كما أن ثقافة المترجم نفسه ثقافة مركبة متعددة المشارب يقابلها في المشرب الآخر ثقافة القارئ والمترجم، ومن جهة ثانية متلق متأثر ولكنه أيضاً مرسل مؤثر بمن يقرأ، ولا تقوم الترجمة بوظيفة تفسيرية فحسب إذ لا تكتفي بفك رموز النص وتأويل قوالبه ثم نقلها إلى اللغة الهدف على مايفترضه ذلك من دقة ومهارة في التأويل، بل تتعدى وظيفة الترجمة ذلك إلى الأمانة في نقل الأثر الواقع على المتلقي.

وتساءلت مشوح: إذا كانت الترجمة الأدبية عموماً إشكالية في جوهرها إلى هذا الحد فماذا يمكننا القول عن ترجمة معاني القرآن الكريم، فمن العبث محاولة تقييد معاني القرآن الكريم وفق معايير علمية موضوعية مطلقة مهما بلغت درجة إتقان المترجم وعلو شأنه بين أهل الصنعة، لأن محاولته مهما كانت ستبقى حتماً عاجزة عن احتواء جماليات القرآن ودقة تعابيره وقاصرة عن مضاهاة النص القرآني بإعجاز لفظه ومعناه وعمق أثره في النفوس، أمام هذه المسلمة لابد من الإصرار أن تحقق ترجمة معاني القرآن بالحد الأدنى هدفاً ليس بالهين وهو الالتزام بالدقة بنقل المعنى كل المعنى وإذا ما اقتصر طموح من تصدى لهذه المهمة الشاقة على ترجمة معاني القرآن الكريم فحسب فإن المصاعب كثيرة من أهمها اتساع ألفاظ اللغة المصدر وتنوع دلالات اللفظ الواحد والبعد التاريخي لبعض الألفاظ وتطور دلالاتها عبر الزمن، فقد أعجزت لغة القرآن الكريم أهل اللسان العربي الضليعين بلغتهم فما بالنا بالمترجمين المستعربين وهناك إشكال دون شك في ترجمتها دينياً وثقافياً وحضارياً ولغوياً.

وذكرت مشوح أربع ترجمات وفق تسلسلها الزمني وهي ترجمات ألبير كازيمرسكي، نور الدين بن محمود، جاك بيرك، الترجمة الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في السعودية، وقدمت المحاضرة تعريفاُ للمشترك اللفظي باعتباره  اللفظ الواحد الدال على معنيين أو أكثر سواء أكانت تلك المعاني متباينة تماماً أم كان أحدها هو الأصل والآخر مجازاً له، ويكون المشترك اللفظي في الأسماء والأفعال والحروف ويشتمل المشترك اللفظي أيضاً على التضاد.

كما تحدثت مشوح عن أسباب نشوء المشتركات اللفظية ومن الأسباب التي ذكرتها: المجاز والاستعارة وتعدد اللهجات واختلاف البيئة وتغير نطق الكلمة مع الزمن، وأتت المشتركات اللفظية أيضاً من الإبدال في اللغة العربية وهناك بالضرورة عامل التطور الدلالي للكلمة، وفي القرآن الكريم الكثير من المشتركات اللفظية التي كانت السبب في اختلاف المفسرين.

ومن الأمثلة التي أوردتها مشوح: “إن المتقين في جنات ونهر” نهر مشترك لفظي من دلالاته المتعددة السعة في الرزق والمعيشة، مجرى الماء، أنهار الماء والخمر واللبن والعسل، وتناولت كل مثال من المشتركات اللفظية التي أوردتها وعرضت ماجاءت به الترجمات الأربع مع المقارنة بينها وتبيان أوجه الاختلاف أو التشابه بينها، مع توضيح الآلية التي اتبعها المترجمون لنقل معاني تلك المشتركات ونقلها إلى الفرنسية لتصل إلى نتيجة مهمة وهي أن أصحاب تلك الترجمات لم يتكئوا على دلالتها المعجمية لتعددها، بل اعتمدوا أولاً على ماورد في كتب التفاسير وعندما وقفوا على مافيها من اختلاف في التأويل اتكأوا على السياق سواء ضاق أو اتسع، وتوقفت عند نقطة مهمة وهي أن قدسية النص جعلتهم يرهبونه ويخشون التصرف في ترجمته وكأنهم يترجمون الكلام وليس الدلالات والمعاني، فللنص حساسيته وهذا ما أوقعهم أحياناً في الترجمة الحرفية فقد التزموا بترجمة القول لا بنقل معناه الصحيح مما أخل بالمعنى وأفقد الأسلوب سلاسته .

وأكدت مشوح على أهمية الترجمة في بناء جسور التواصل المعرفي معتبرة أن التصدي لبحث إشكاليات ترجمة معاني القرآن الكريم يلبي حاجة ملحة في تصويب الممارسات الترجمية الأدبية عموماً، ويضع معايير دقيقة لترجمة معاني القرآن الكريم عل ذلك يسهم في وصول تلك المعاني المقدسة إلى متلقيها باللغات والثقافات الأخرى سليمة من كل خطاً.

جلال نديم صالح