أخبارزواياصحيفة البعث

المتباكون على “الخلافة العثمانية”

د. إبراهيم علوش

يطلع علينا بين الفينة والأخرى من يتباكى على قرون التجمد الحضاري خارج التاريخ في ظل الاحتلال العثماني، بذريعة أن ما تلاها كان تجزئة واحتلالاً وتبعية للغرب، والمؤسف أن بعض هذه الأصوات محسوبةٌ على محور المقاومة، وتتبنى موقفاً مناهضاً للصهيونية وللهيمنة الغربية على المنطقة.  لذلك لا بد من تصويب السجل التاريخي والسياسي في هذه المسألة نظراً لخطورة مثل هذا الطرح، لا سيما عندما يصدر عن جهات ذات مصداقية وطنية ما عدا ذلك…

أولاً، كان التأخر الحضاري الذي فرضه العثمانيون، والانكماش السكاني والضعف العسكري والسياسي والاجتماعي المواكب له، هو العامل الرئيسي الذي مكّن الغرب من احتلال شمال إفريقيا برمته، ومن التغلغل في المشرق العربي، لا سيما التغلغل الصهيوني في فلسطين في ظل عبد الحميد الثاني (كما سنظهر لاحقاً).  ففكرة أن العثمانيين حمونا من الاحتلال الغربي عبارة عن هراء.

ثانياً، كان العثمانيون في معظم القرن التاسع عشر حلفاء لغرب أوروبا في مواجهة روسيا، وحلفاء للأوروبيين في مواجهة مشاريع النهضة العربية، ولننتبه جيداً أن جيوش خمس دول أوروبية (كافرة؟) احتلت بلاد الشام، وأخرجت إبراهيم باشا منها، وسلّمتها للخلافة العثمانية، فما سمح باستمرار الخلافة العثمانية في القرن التاسع عشر هو الغرب “الكافر” نفسه، في مواجهة القومية العربية، العدو الحقيقي للغرب.

ثالثاً، عندما نشبت الثورة العربية الكبرى، كانت “الخلافة العثمانية” قد أطيح بها، وكان الاتحاد والترقي قد وصل للسلطة عام 1908، ورسمياً عام 1909، وكان مشروع التتريك قد أسفر عن وجهه الدموي، وكانت النزعة الطورانية قد أصبحت قانوناً رسمياً بعد أن كانت تتخفى بعباءة دينية، فقصة أن العرب ثاروا على العثمانيين ليست دقيقة، فالمعركة كانت مع الاتحاد والترقي.

رابعاً، حقيقة تعاون قيادة الثورة العربية الكبرى مع الاحتلال البريطاني تجعل من تلك القيادة خائنة لمبادئ الثورة العربية نفسها، ولا تجعل من مشروع الوحدة العربية والتحرر من أي احتلال، سواء كان عثمانياً أم غربياً، فكرة “خيانية”.

خامساً، من ينشرون الحنين للمشروع العثماني الرجعي المتخلف المحمي من قبل الاستعمار الأوروبي خلال القرن التاسع عشر يقدّمون غطاءً للهيمنة التركية المعاصرة على بلاد الشام والعراق، لا سيما السعي الحثيث لتتريك شمالهما اليوم، فانتبهوا.

سادساً، بعض الإخوة في محور المقاومة ممن يقدّمون مثل هذه الطروحات يصبون في خانة محاربة الهوية العربية لبلادنا، وبالتالي يصبون في مشروع “الشرق أوسطية”، سواء تحت غطاء إسلاموي أم مشرقي أم صهيوني أم غربي، لا يهم، لكنهم يحملون معول التهديم الذي يتقاطع مع المشروع الأمريكي-الصهيوني، عن حسن أو سوء نية، وهنا يجب أن لا نتردد بالدفاع عن هويتنا العربية، مع كل المحبة والاحترام لمن نتقاطع معه في أي قضية استراتيجية أو تكتيكية ما عدا ذلك.

سابعاً، الأغرب طبعاً تلك القصة التي يتسلى البعض بروايتها عن السلطان عبد الحميد وزعمهم رفضه تسليم فلسطين لليهود،  والغريب في تلك القصة العجيبة أن السلطان عبد الحميد:

1) كان في حالة تفاوض مع ثيودور هيرتزل حول تقديم ديون للدولة العثمانية.

2) سمح بأول ثلاث مستعمرات يهودية أن تبني في فلسطين في ظل حكمه، وهي: ريشون ليتسيون، وبتاح تكفا، وزخرون يعقوب في القرى العربية الفلسطينية التالية بالتوالي: عيون قارة، ملبس، زمارين (وقد تبين من أبحاث لاحقة قام بها آخرون أن عدد المستعمرات التي تم تشييدها في عهده هو 33 مستعمرة، بالإضافة للبنية التحتية للدولة الصهيونية).

3) سمح بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقد جاءت موجة الهجرة اليهودية الأولى إلى فلسطين عام 1882، وبدأت موجة الهجرة اليهودية الثانية حوالي عام 1895، حسب معظم المراجع التاريخية، ومنها مثلاً كتاب الدكتور عبد الوهاب الكيالي “تاريخ فلسطين الحديث” (الفصل الثاني).  أي أن تينك الهجرتين جاءتا في فترة حكم السلطان عبد الحميد الواقعة ما بين عامي 1876 و1909، وخلالها بدأ تأسيس المستعمرات اليهودية الأولى، وخلالها أيضاً عادت الهجرة الصهيونية إلى الاشتداد عام 1905، واستمرت حتى عام 1914. وساء الأمر بالتأكيد بعد وصول جماعة “تركيا الفتاة”، الصهيونية النزعة، إلى الحكم في عام 1908.

4) سمح لليهود بتملك الأراضي في فلسطين، ويشار في هذا الصدد أن كل جهود الحركة الصهيونية حتى عام 1948 لم تسفر عن السيطرة على أكثر من 5,6 بالمئة من أرض فلسطين التي تزيد عن 27 ألف كيلومتر مربع بقليل، ولكن سجلات الطابو تظهر حسب أكثر من مرجع، ومنها كتاب ناجي علوش “الحركة الوطنية الفلسطينية أمام اليهود والصهيونية”، أن ما بين 420 ألفاً و650 ألف دونم من الأراضي العربية في فلسطين سيطر اليهود عليها خلال فترة الاحتلال العثماني.
(مقتطف من مقالتي “الاحتلال العثماني والحنين للتخلف”، 2008)..

عبد الحميد طبعاً تحوّل إلى إحدى تخاريف بعض الإسلاميين الذين ما برحوا يتحدثون عن “تضييع القوميين العرب لسيناء والجولان إلخ…”، ففي ظل عبد الحميد، الذي حكم بين عامي 1876 و1909، احتُلت مصر عام 1882، واحتُلت السودان عام 1898، واحتُلت الصومال عام 1884، وفرضت إسبانيا وفرنسا الوصاية على المغرب عام 1906، وفي ظل من قبله من السلاطين تم تأسيس أول مستعمرة يهودية في فلسطين عام 1856 المسماة “مشروع موسى مونتيفيوري”، وفي ظل عبد الحميد والاتحاد والترقي ارتفع عدد اليهود في فلسطين من 7 آلاف إلى 80 ألفاً مع بداية الحرب العالمية الأولى.

وكانت بريطانيا قد فرضت الوصاية على كل إمارات الخليج العربي في القرن التاسع عشر، بعد استئصال النفوذ البرتغالي والهولندي منه، وأخضعت الساحل العماني لنفوذها عام 1820، واحتلت عدن عام 1839 ضمن استراتيجية تطويق تمدد محمد علي باشا في المشرق العربي، وكانت فرنسا قد احتلت الجزائر احتلالاً استيطانياً كاحتلال الصهاينة لفلسطين عام 1830.  إذاً أسطورة حماية العثمانيين للعرب من الغزو الأوروبي عبارة عن كتلة من الهراء الذي لا يصمد أمام أي تدقيق جاد.

كلمة أخيرة عن المدعو “أرطغرل”:

المدعو “أرطغرل” شخصية ملتبسة لم يذكرها مؤرخو القرون الوسطى العرب والبيزنطيون، وتمثّل إسقاطاً أسطورياً للطموح العثماني التوسعي.. ويعود تاريخ الكتابة الحالية المنقوشة على مقبرة منسوبة إليه في مدينة سكود إلى عام 1886-1887م، وذلك أثناء عملية ترميم سابقة قام بها السلطان عبد الحميد الثاني كجزء من عملية إحياء “التراث المجيد” الموهوم للعثمانيين، ولو كانت المسألة مسألة “احترام القوة”، لكان من الأجدر بالعرب الذين يمجّدون المدعو أرطغرل أن يحترموا المغول المتوحشين الذين هرب أرطغرل وقبيلته من أمامهم إلى الغرب ليلتحقوا بخدمة سلاجقة الروم!.

فما ورد عنه هو دراما تركية موجهة سياسياً في خدمة مشروع توسعي… مجرد دراما، والحقيقة غير ذلك، لو نظرنا جيداً…