اقتصادصحيفة البعث

سيولة نقدية هائلة تضع المصارف على محك التوظيف الصحيح للقروض.. الهياكل المالية غير المستكملة تقود المصارف إلى عشوائية المنح..!

تسبب تضخم الكتل النقدية المودعة في المصارف العامة والتي قدرت بـ3 تريليونات ليرة -وفق آخر تصريحات وزير المالية الدكتور مأمون حمدان في أحد الاجتماعات- بحالة من العصف الذهني ضمن الإدارات المصرفية والمصرف المركزي لتوظيفها ضمن الآليات المتاحة، وتسييلها في قنوات إقراض مختلفة سارعت إلى تطبيقها معظم المصارف، إلا أنه وبالرغم من زخم القروض المطروحة وبعض التسهيلات المروج عنها، لكنها لم تستحوذ على النزر اليسير من الراغبين والطامحين إليها باستثناء قروض الدخل المحدود كونها بسقوف مالية محددة، والقرض الإنمائي الذي شكل حالة خاصة سيتم تفسيره لاحقاً. ولعل بعض الاشتراطات مازالت تعرقل تدفق الأموال إلى مشاريع المستثمرين، كالضمانة العقارية والفائدة المطبقة وتذبذب سعر الصرف وغيرها الكثير من السياسات النقدية والواقع الاقتصادي التي لاشك تحتاج بحسب رؤية خبراء الاقتصاد إلى إعادة هيكلية وتصحيح جذري ليتم استثمار هذه المبالغ ضمن العملية الاستثمارية والتنموية بشكل علمي وعملي بعيداً عن المجازفات والمخاطر.

شكل ظاهري

تعد سلة القروض التي أطلقت خلال العام الحالي مشجعة بشكلها الظاهري ولاسيما في تنوعها لتلبي تمويل جميع المتطلبات من القروض الصناعية والتجارية والشخصي والإنمائي، لكنها وإن لاقت قبولاً من الفئات المستهدفة إلا أنها دلت على تخبط المصارف وعشوائيتها في عملية الإقراض، ولعل القرض الإنمائي الذي طرحه المصرف العقاري مؤخراً خير مثال على ذلك، إذ أثار حفيظ البعض لجهة منحه لمنشآت قائمة وقيد الإنشاء على حد سواء بسقف 100 مليون ليرة للشركات و50 مليوناً للأفراد، وهنا يمكن الإشارة إلى أن نسب الإقبال الكبيرة عليه تشي بسهولة المنح لغياب المتابعة والتدقيق لجهة توظيف الأموال في مطارح إنتاجية أو استثمارية، بل يدخل في خانة التعثر بحسب الدكتور علي كنعان الذي اعتبر أن القرض الممنوح لمنشآت قائمة بهذه السقوف تفسد المقترض وتشجعه على الفساد ومن ثَم التعثر، ولاسيما أن القرض متاح للصناعيين والتجار وأصحاب المهن الحرة، ويمنح لكل من يملك ضمانة عقارية تساوي 200% من قيمة القرض، مؤكداً أن القرض التنموي أفسد معظم الصناعيين سابقاً، مبيناً أن الهدف من القروض إنعاش العملية الإنتاجية وتأسيس شركات ومنشآت للعمل، أما القروض التي توجه إلى التجار فتذهب في مسارب أخرى بعيدة كل البعد عن أولويات الاقتصاد ومراحله الراهنة.

بوصلة نقدية

لابد أن يسبق التوسع في الإقراض جملة إجراءات لتصحيح السياسة النقدية بالتوازي مع إحداث بعض المؤسسات المعنية برسم هذه السياسة وقدرتها على ضبط آلية الإقراض وتوجيهها إلى أهدافها المباشرة، بالإضافة إلى حماية المصارف والمقترضين من التعثر لاحقاً، فليس أولها تفعيل مؤسسة ضمان القروض التي سبق وتم الإعلان عنها، ومازالت في خانة التشكيل منذ أكثر من سنتين، ولا آخرها سعر الفائدة المستقر رغم تذبذب نسب التضخم، وهي حالة غير صحيحة نقدياً، إذ يجب أن ترتبط نسب الفائدة بمعدل التضخم، فارتفاع نسب التضخم تستوجب رفع سعر الفائدة والعكس صحيح، طارحاً مثالاً عن سلوك بعض المصارف المركزية العالمية التي تقوم بتخفيض سعر الفائدة خلال العام ثلاث مرات، بينما في سورية لا تزال الفائدة ثابتة منذ أكثر من سنتين في مصارفنا، وبالتالي لابد من ربطها بالتضخم لإضفاء مرونة باعتبارها من العوامل المشجعة على الإيداع، وكذلك الأمر ذاته ينسحب على فوائد ودائع القطع الأجنبي المتدنية، متغافلاً المركزي عن قدرتها في جذب الكتل النقدية الأجنبية في السوق وسيطرته على تداولات القطع، ويعكس سلوك مصرف لبنان المركزي حذاقة برفع نسبة الفائدة إلى 8% للإيداعات بالدولار، و13.5% لما يفوق 20 مليون دولار؛ الأمر الذي ضاعف قدرته على جذب مبالغ مالية هائلة واستثمارات مستقبلية، ولكنه في الواقع يقابل الإدارة المصرفية التي تعاني من سلبيات عدم القدرة على استثمار الأموال المودعة بالقطع الأجنبي كونها تعمل في اتجاه واحد وهو الإيداع، وبالتالي تعد عملية خاسرة إذا ما قابلها منح قروض للمستثمرين بذات العملة.

غير مستكملة

ويلخص كنعان الإشكالية الحقيقية لعملية الإقراض بأن الهياكل المالية غير مستكملة، فمن أسس تفعيل نظام مصرفي ضرورة وجود مؤسسات فعالة في السوق، كمؤسسات ضمان القروض ومؤسسات ضمان الودائع وتعددها وعدم حصرها بمؤسسة واحدة، مقترحاً أن تدخل شركات التأمين كشريك في مؤسسة ضمان القروض، على أن يكون لها نسبة محددة من القرض تراوح بين 0.5 إلى 1%، وبالتالي تلعب دوراً هاماً في تقويم مسار الإقراض وضمانه لجهة الالتزام بالتسديد للمصرف، أما مؤسسة ضمان الودائع فلها أثر إيجابي يطمئن ويجذب المستثمرين المحليين والأجانب لإيداع الأموال وسحبها، وتبطل بعض القرارات التي تحدد سقف السحب أو الإيداع وتصبح العلاقة بينها وبين المصرف المعني.

وتبرز ضرورة إحداث مؤسسات لشراء القروض المتعثرة، كونه من الملفات التي أرقت الحكومة طويلاً، ولعبت دوراً في هدر أموال الدولة وبالتالي خلقت تخوفاً واضحاً في عمليات إعادة التمويل، كما سينتج عن استمرار عشوائية المنح ملفات أخرى يجب التنبه إليها قبل حدوثها، وفي هذا السياق أكد كنعان وجود شركات مختصة بهذه القروض في كافة دول العالم يمكنها شراء قيمة القروض المتعثرة، وتجنب لجوء المصارف إلى المزاد العلني الذي طُبق في القانون المدني لفك النزاعات العائلية على الممتلكات فقط، أما الضمانات العقارية كالمنشآت السياحية والصناعية فمؤسسات شراء القروض تقوم بإعادة تأهليها أو استثمارها بعد دفع مستحقات المصرف المعني.

خلاصة

قد يكون ما سبق من طروحات بديهيات في السياسات النقدية في مختلف الدول التي تصبو إلى تصويب بوصلتها المصرفية وتوظيف سيولتها بكفاءة عالية، إلا أن السياسة النقدية لدينا لا تزال مسرحاً خصباً للتجريب والتعديل بعيداً عن مسلمات الاقتصاد العالمي بتغير الإدارات والأشخاص، وبالتالي لابد من إعادة هيكلتها وتثبيت أسس ومقومات الاقتصاد المصرفي لجني فوائد الأموال المودعة وتوجيهها في المسار الصحيح.

فاتن شنان