دراساتصحيفة البعث

بماذا تفكر أمريكا؟

ريا خوري

المتابع الحصيف لبنية السياسة الشرق أوسطية يدرك تمام الإدراك حجم التعقيد والتشابك في الرؤى السياسية لدول المنطقة بخاصة ما جرى ويجري على الأراضي السورية، والمتابع بشكلٍ حقيقي لتصريحات الزعماء الإقليميين يُدرِك تماماً أن قيادات هذه الدول مُتمسِّكة بمقررات أستانا نتيجة ضرورة الحاجة والرغبة الكبيرة في التصدّي للهيمنة الأميركية.

مؤخراً نجحت منصَّة أستانا بتحقيق خرقٍ في الأزمة السورية، هذه المرة تمثّل الخرق  في الشقّ السياسي عبر الإعلان الواضِح والصريح حول التوافُق على قوائم أعضاء اللجنة الدستورية خلال القمَّة الخامسة لزعماء أستانا، بعدما تمكَّنت هذه المنصَّة في السابق من التوصّل إلى تحقيق خَرْقٍ عسكري كبير من خلال تحديد مناطق خَفْض التصعيد والتي ساهمت بتقلّص نفوذ الإرهاب والإرهابيين على مستوى الأرض السورية.

لقد وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خروج الدخان الأبيض والأجواء الإيجابية التي سادت اجتماعات القمَّة أن النجاح  لم يكن وليدة اللحظة أو بناء على توافقاتٍ آنيّة، ولكنها كانت نتيجة مُتغيّرات ومواقف ومنهج متبع على الأرض أرخت بظلالها  لحدوث توافقات _ بحدودها الدنيا على أقل تقدير _ فقد شهدنا جميعا التقدّم  السريع الذي حقَّقه الجيش العربي السوري بدعمٍ من سلاح الجو الروسي في تحرير ريف حماه الشمالي وأجزاء من جنوب ريف إدلب، الأمر الذي أدّى إلى سقوط وانهيار الخطوط الأمامية والأساسية للتنظيمات الإرهابية وفقدانها  تحصيناتها التي تتمركز خلفها على مرّ السنوات السابقة. إضافة إلى ما أكده  كل من وزيري الخارجية والدفاع الروسيين على حجم التطوّراتٍ الإيجابية التي  شهدتها الأراضي السورية من معارك طاحنة ، فقد أكّد وزير الخارجية  على اقتراب انتهاء الحرب وبقاء بؤَر توتّر محدودة وصغيرة ، ووزير الدفاع أشار إلى عودة الأمور إلى طبيعتها في مُعظم الأراضي السورية.

إضافة إلى كل ما سبق شاهدنا حجم وقوة الإجراءات السورية التي تمثَّلت في تمديد الهدنة، وافتتاح معبر أبو الظهور لخروجٍ آمِنٍ للمواطنين السوريين مع وجود احتمال  كبير بفَتْح المعابر خلال الفترة القادمة، على غرار ما حصل أثناء تحرير شرقي حلب من الإرهابيين ، وصدور مرسوم العفو الذي أصدره السيد الرئيس  رقم 20 لعام 2019 والذي يُعتَبر الأوسع والأشمل منذ بدء الحرب عل سورية، وتضمّنه العفو عن الفارّين الداخليين والخارجيين وهذا أمرٌ هام جداً ، ما يؤكّد تمسّك الحكومة السورية بالخيار السلمي ودعوتها المواطنين السوريين المتواجدين في إدلب لتغيير اصطفافهم والعودة إلى حضن الوطن، قبل بدء معركة الحَسْم ضد الإرهابيين وتنظيماتهم الإجرامية .

ونتيجة لتطور الأحداث المتسارعة تابعنا الزيارة الخاطِفة والسريعة للمبعوث الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين  إلى سورية ألكسندر لافرنتييف ولقاءه السيد الرئيس بشار الأسد، وهذا كان يُشير إلىاطلاع الجانب الروسي للقيادة السورية على قائمة الأسماء والحصول على موافقتها على أية مبادرة روسية إيرانية ، وهذا ما يشرح  تأكيد الرئيس الإيراني حسن روحاني على أهمية اتفاق أضنه الذي عقد في العام  1998 لحماية السيادة السورية ، وما يُفسِّر في الوقت ذاته غياب استخدام مُصطَلح (المنطقة العازِلة أو الآمِنة) من قِبَل النظام التركي.

لقد شهدت الساحة السياسية الدولية حراكاً واسعاً ونتج عنها مُتغيّرات ومواقف إقليمية تجاه سورية وتجلَّت أولاً بعودة  رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي مُكبَّلاً من موسكو،  وثانياً الوضع المُتفاقم في تركيا على المستوى الداخلي وبنية الصراعات الحزبية والشعبية، وتلاها أبعاد تصريح الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي عن أن الإرهاب كانت وظيفته تدمير الدولة السورية ومنعها من تحقيق استقلالها الكاملة، ومثل هذا التصريح يؤكّد بوضوح  أن شيئاً ما تقوده موسكو لإعادة العلاقات العربية مع سورية  وهو ما طالب به بوتين في مؤتمره الصحفي وما لاحظنا من إعادة  فتح سفارات عربية وتدفق وفود سياسية وشعبية.

ومع ذلك فإن هذا التفاؤل لا يزال محفوفاً بالمخاطر لجهة مدى التزام حكومة النظام التركي بتعهّداته التي أعلنها سواء في ما يتعلّق بوقف الدعم عن المجموعات المُسلَّحة والعديد من المجموعات الإرهابية، وتشكيل اللجنة الدستورية ومُحارَبة الإرهاب بكل أشكاله وإعادة اللاجئين (طوعاً) من دون إعادة استثمار ملفّهم الإنساني واستغلالهم لأهدافٍ سياسيةٍ ومادية كما هو حاصل. وبالفعل فقد تسرّبت بعض المعطيات والمعلومات الخاصة التي تؤكّد حصول خلاف ما بين النظام التركي وقيادات “جبهة النصرة الإرهابية”، ورفض الأخيرة مطالب أنقرة بالانسحاب من الطريقين الدوليين (M4,M5) في مقابل إصرار حكومة روسيا الاتحادية والحكومة الإيرانية بدعم الجيش السوري في عملياته للقضاء عليها، الأمر الذي يجعل هذه المجموعات بين خيارات  ثلاث : الأول، مرحلة  الانتقال نحو الحاضِنة والدعم  والغطاء الأميركي، كبديلٍ عن الداعِم التركي الذي دعم تلك الجماعات. الثاني، الانسحاب نتيجة الخسائر الكبيرة التي تلقّتها أو قد تتلقّاها في قادِم الأيام باتجاه مناطق سيطرة ما يُسمَّى ( قوات درع الفرات وغصن الزيتون)، وحصول اشتباكات عنيفة بينها وبين عدة مجموعات إرهابية التابعة لتركيا لبَسْطِ النفوذ، من دون إغفال احتمال قيامها بعملياتٍ عدوانيةٍ وانتقاميةٍ داخل تركيا على غرار ما قام بها تنظيم “القاعدة وطالبان”. والثالث، رضوخها للمطالب التركية بالانسحاب وإعادة توظيفها في عملياتٍ عدوانيةٍ تركيةٍ مُحتَملة، أو نقلها نحو مناطق توتّر أخرى على مستوى المُحيط الإقليمي لزعزعة الاستقرار .

وأمام هذه التطورات، لاشك، أن السلوك الأميركي الرافِض لأية تطوّرات لا تصبّ في سياق خدمة أجنداته المنظورة وغير المنظورة  من المتوقع أنه سينتهج أحد ثلاثة مسارات من شأنها عرقلة ما تمّ الاتفاق عليه في شأن اللجنة الدستورية: المسار الأول، العودة إلى التأثير في الحراك العسكري في إدلب عبر تصفية القيادات القاعدية المُقرَّبة من تركيا وإعادة احتوائها لعدم انصياعها للتفاهُمات الروسية التركية. المسار الثاني، تعطيل عمل اللجنة الدستورية التي تمّ الاتفاق على قوائم أعضائها. المسار الثالث، أن تُقدِم الولايات المتحدة الأمريكية على تقديم بعض التنازُلات لتركيا حول ما يُسمَّى المنطقة العازِلة لإثارتها من خلال رشوة  ودفعها إلى التنصّل من التزاماتها.