تحقيقاتصحيفة البعث

يحتاجون لها الثقافة في حياة الأطفال.. اكتساب للمعارف وإنماء للمهارات والقدرات 

تعتبر الثقافة السبيل الأرقى للنهوض بأي مجتمع كان، وهي الأداة التي توصل الجماعة لمبتغاها بأقصر مدة وأبهى صورة، وهي التي تجعل الإنسان يدرك غاية وجوده، وتحثه لتعميق هذا الوجود، فهي تكسب صاحبها الثقة بالنفس، وثبات الموقف، والتروي في التصرف، فالمثقف شخص يسعى ليكون اليوم أفضل من أمس الذي مضى وانصرم، ويتطلع للمستقبل كي يكون زاهراً ومشرقاً أفضل من اليوم الذي سينصرم.

طريقة اكتساب الثقافة عند الطفل تختلف عما هي عليه عند الكبار، إذ لا يمكن أن يكتفى بالسرد الجاف للمعطيات والمعلومات التي تقدم له، بل لابد من استخدام الفنون الأدبية كوسيلة تجلب الامتاع للطفل (الفائدة، والتسلية معاً)، لأن الطفل يشعر بالنفور من المواد الجافة، والفنون التي تقدم له المعارف عن طريقها ليست زخرفات خارجية وظاهرية، بل هي من بنية العمل الفني للمادة، وتسهل على الملقن إيصال رسالته للطفل، وتدفع الأخير ليرتشف أكثر وأكثر.

إن المواد التي تصل للطفل تسهم في تهذيب خلقه، والرفع من سويته الإنسانية، فهي من باب أولى تسهم في تربيته وتأديبه لتكون الوسيلة الفضلى والمثلى للتعرف على الكون من حوله، إذ يولد الطفل منذ اللحظة الأولى من حياته وفي قلبه مغروس ألف سؤال وسؤال، ويسعى من خلال الثقافة للإجابة عنها، الواحد تلو الآخر، وقد أوردت دراسة أمريكية بأن عملية تثقيف الطفل تبدأ منذ سماعه الموسيقا وهو في بطن أمه.

لا يكفي أن يبدأ الشاب ببناء شخصيته وثقافته، فالأخيرة حاجة وليست ترفاً فكرياً، لذا فإن تربية وتنشئة الأطفال على الثقافة حاجة لهم ولوالديهم وللمجتمع، ولا يكفي أن تبدأ منذ عمر الشباب، بل لابد أن تقترن مع سني الطفولة الأولى.

الثقافة حاجة للطفل كي ينمّي مداركه العقلية، ويحرّض ذهنه على التفكير، فلا يعتمد على ما يقدم له وحسب عن طريق العلم، بل يسعى للتعلّم أيضاً، فالمطالعة هي الأداة الأرقى لتملك الثقافة عموماً، وبالنسبة للأطفال بصورة خاصة، لأنها لا تقدم لصاحبها العلم فقط كباقي الوسائل المتبعة لتحصيل المعرفة، بل هي حاجة لصاحبها بحد ذاتها، فهي تعلّم الطفل الصبر، والهدوء، والتروي، لذا لابد من التشديد على حاجته للمطالعة بحد ذاتها لما لها من فوائد تعود بالنفع على الطفل حالياً، وعلى مستقبله لاحقاً، ومن هذا الباب فإن الدراسات العلمية أثبتت تميز الأطفال الذين يطالعون أكثر بكثير بالمقارنة مع أترابهم الذين يؤجلون عملية التثقيف إلى سن الشباب بما لا يقاس بالنسب حتى، وهذا الموضوع محط بحث قائم بذاته، فالمطالعة تسهم في بناء كيان الطفل بالطريقة الصحيحة في الوقت الحساس والمفصلي له.

وكي يأخذ الوالدان دورهما عليهما أن يربيا ويهذبا ويعلّما، ولكن، هل يكفي ذلك؟! بالطبع لا، فمن صلب واجبات الأهل تجاه أبنائهم أن يذكروا دوماً قول جبران، فقد صدق (جبران خليل جبران) حين قال: “أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة)، هل نداء جبران هذا يحمّل الوالدين مسؤولية تربية الأبناء، أم يدع الوالدان أبناءهما وشأنهم كونهم أبناء الحياة؟!.

يدعو جبران الآباء والأمهات على حد سواء للقيام بالمهمة الموكلة لهم التي هي عبء ملقى على عاتقهم، لتكون هذه الأمانة حقاً من أبناء الحياة، وهنا لا نقصد بالحياة المعنى اللفظي الظاهر للكلمة، بل الباطني والعميق، فلكي يصبح الإنسان من أبناء الحياة عليه أن يعيشها بشكل واع كي يكون عضواً فاعلاً في المجتمع.

تؤثر ثقافة الطفل على المجتمع ككل، لأنها تجعل منه عضواً فاعلاً فيه، الثقافة ليست فعلاً وحسب، بل هي اسم أيضاً، تطبع صاحبها بالسمة التي بذل نفسه من أجلها، ثقافة الطفل تسعى في بناء المجتمع وتثبيت بنيانه عن طريق تكوين هذا الطفل الذي تثقف، وهذا ما نراه جلياً في بنية المجتمعات التي تسعى لتثقيف أطفالها، وهنا لابد لنا من الإشارة والإشادة ولو بعجالة للدور الريادي الذي قامت به وزارة الثقافة السورية عبر إصدارها مجلة (أسامة) للأطفال منذ سنة 1969، ما أثر كثيراً وبشكل إيجابي وفعال وملحوظ على ثقافة مئات الآلاف من الأطفال منذ خمس وأربعين سنة وحتى اليوم، ومن رواد أدب الطفل في سورية الأساتذة: دلال حاتم، وسليمان العيسى، وعزيز نصار، فقد صدر عن وزارة الثقافة السورية، واتحاد الكتاب العرب في سورية العديد من الكتب والسلاسل التي تعنى بثقافة الطفل، سواء بإغناء مداركه، أو بتدريب وتمرين المختصين ليحتاطوا بهذا العلم منهجياً، ونتمنى أن يساير هذا الحراك الملحوظ اعتناء المدرّسين ومتابعتهم للطلاب كي يطالعوا ويتثقفوا، وأن يصار لتفعيل مكتبات المدارس، وتوثيق التعاون والتعامل بين طلابها والمراكز الثقافية المنتشرة في المحافظات السورية، والكثير من قراها ونواحيها، علينا التنويه بالدور الكبير الذي يلعبه التحفيز في دفع الطفل للنمو والمتابعة والنشاط والمثابرة، إذ يذكر معظمنا كم كان لتحفيز أبناء مدينة جبلة الساحلية من دور كبير في رسم معالم حياة الأديب السوري الكبير (أدونيس) حين كان طفلاً وزارهم في القرية أحد الرجالات الكبار، وألقى قصيدة شعر كان قد كتبها بحضور هذا الرجل، وحضور أهل مدينة جبلة، فللتشجيع دور كبير في حث الطفل وتحريضه للتقدم نحو الأمام، وهذا ما تقوم به المسابقات المدرسية، سواء على مستوى المحافظة، أو القطر، ومن المناسب تفعيل حصة مدرسية قائمة بحد ذاتها، شأنها في ذلك شأن الحصص الدراسية الأخرى التي تعنى برفع سوية الطفل وصقل مواهبه كالرسم، والموسيقا، والرياضة، وذلك بأن تتضمن المناهج الدراسية حصة خاصة بالمطالعة والثقافة تكون مطالعة صامتة بكتب يختارها الطالب ضمن معايير معينة، ومن ثم يتم اختيار شخصين أو ثلاثة ليطلعوا  أصدقاءهم على أجمل ما طالعوه ضمن هذه الحصة، ما يحرضهم للاستزادة من المطالعة، ويتنافسون فيما بينهم لينتقوا ما هو أجمل وأرقى من النصوص، ولابد من التركيز على مواهب الأطفال التي ترفدها الثقافة كالشعر والقصص القصيرة كي تتعزز ثقة الأطفال بأنفسهم ومقدراتهم ومواهبهم، ويتم الإسهام بتطويرها وتصقيلها كما يجب.

حاجة ضرورية

ثقافة الطفل بالذات ليست ترفاً، أو للخاصة، بل هي حاجة ضرورية لبناء الإنسان السوي في المستقبل، وهي أرقى وسيلة لصقل ملكات الطفل ومدركاته، والارتقاء بمقدراته، فإن كان شعار الأقدمين: “من حق الطفل أن يتعلّم”، فإنه اليوم: “بات من حق الطفل أن يتثقف”، وفوق ذلك ربما من واجبه أن يغدو مثقفاً، ومن واجبنا نحن أن نؤمن له كافة مستلزمات هذه الثقافة.

البعث