الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

تغسلني رائحة ياسمينك!

سلوى عباس

في لحظة من لهفة الاشتياق في غياباته البعيدة خاطبها: لم أنس الكتابة إليك، وكيف أنسى وروحي معجونة برائحتك، ولكن ربما كان الاستمتاع بنشوة الاشتياق إليك وراء هذا الغياب، ولكن “كيفك أنتَ”، مازالت أول الكلام وستبقى.

يا فنجان قهوتها كيف هي شفتاها وهي ترتشف قهوتها الصباحية؟ كيف هو وجهها الحزين آخر النهار المشرق في ليلها؟ ما هي أخبار الأنامل الخجولة وهي ترتجف من البرد ربما؟ وربما من هاجس آخر؟ يا مكتبها؟ أتذكر اللقاء الأول والساعة الثالثة؟ لم أكتشف المطر هنا، فما زلت اقترب منه بخجل.. هل يعقل أن يغسلني مطر آخر غير مطر دمشق. دمشق وياسمينك يقتلني.. يا امرأة المسافات البعيدة مدي لي شراع يديك من غير ميعاد.. لك الشوق يكتب واحتراق مساء لابد سيأتي معك، فرائحة ياسمينك تغسلني، تعتقلني للحظة تكونين فيها ويكون النبض الآخر كأول مرة التقينا.

****

حاول أن يمنعها من الذهاب ويضمها في قلبه، ويواري وجهها البهي بين ضلوعه، وأن يدفع عنها الريح كي لا تفارق خصلة من شعرها الخصلة الأخرى، أن يدفع بصدره عنها أشواك النباتات المتوحشة، ويحاول أن يرمي بروحه على شوكة تترصد أصابعها على مفرق وردة، دائماً يرسل طيفه إلى سريرها الوادع، يغطيها في هدأة نومها، ويمسح عن جبينها برودة الليل .

سار في الطريق حائراً.. كيف كان لها أن تبتعد دونما التفاتة، كيف استطاعت أن تبعد كل ذلك الورد الذي همى في دربها، كيف حولت الهواء حوله إلى رمال، ورطوبة يدها إلى موجة من نار.. ليس لديه قوارب نجاة، ولا قدرة على التنفس.. ابتعدت وتركت له أفقاً من لزوجة وصحارى، لا سماء هنا الآن ولا أقواس قزح، لا شيء ينقذ قلبه من ضراوة الهم، ولا أحد غيرها يمد يداً من حنين، لا أحد غيرها ينتشل روحه من معاصر الحزن.

****

في لحظة من صدع الروح قررت التحاف الصمت، قررت أن يكون بوحها لذاتها في وقت وجدت نفسها غريبة في كل شيء.. ما من حبيب أعطى الأمان، ولا صديق جاهر بالوفاء، ترى نفسها دائماً في مرمى الإيقاع الرتيب لذاكرة سوداوية موحشة، هناك من يحاول أن يقتل لديها أي حالة تفاؤل أو إحساس بالجمال، ويوقظ في داخلها ذلك الشخص الحزين المثقل بالأوجاع والهموم، الهاوي للنكد، والصائد للابتسامات، هذا الشخص الذي تحاول دائماً الابتعاد عن ألفته ونقض عهودها معه ونقض حالة تشابكه المتعب فيها، تحاول دائماً أن تحجبه عن التمادي في استلابه لها وتنطّعه عليها في اتخاذ قراراتها، هو شخص حزين يهادنها أحياناً ويصقل ابتهاجها بشفيف شاعريته التي تتبدى عادة في كلماتها كضوء شاحب ينزف فيها تراثاً من الوجع والاستكانات المؤلمة.. هذه الحالة رغم الحاجة إليها أحياناً، لكنها تحب أن يبقى قلبها نابضاً بالحياة تعشق كل لحظة فيها، وأن تبقى روحها شابّة لا تشيخ مهما عصف بها العمر، وبالتالي هذه الحيوية تعكسها على ذاتها وعلى من حولها حالة من الرضا والسعادة، فجَمَال الروح هو الشّيء الوحيد الذِي لا يستطيع الزمان أن ينال منه، هي تدرك أن الحياة قصة قصيرة ألّفها الـزمـن، فمنذ أن وعتها وهي تسعى إلى أن تعلّق أمانيها على أغصان الشجر دون أن تعطي بالها لفعل الريح متيقنة أن أشرعة مراكبها لن تكسرها عواصف الخيبات، فقلبها عامر بالمشاعر الصادقة والبعيدة عن الزيف والنفاق، وستبقى تنتمي لإنسانيتها وللحياة التي تليق بها، ففضاءاتها أوسع من أن يقيدها الآخرون في سجن أوهامهم الواهية التي تجاوزتها منذ زمن طويل، ولن تكون في مرمى ما يرغبون أبداً.