ثقافةصحيفة البعث

“لست أنا ..هذا شبحي”.. قلق يتمشى فوق ريح

قلق أو إحساس عالٍ بالعدمية، تفتتح بطبيعته المتوجسة، الشاعرة “لينا شدود” ديوانها الشعري الرابع”لست أنا هذا شبحي” الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، العنوان التكثيفي للكتاب والذي يكاد يكون منتهى القول الشعري في هذه المجموعة والدال الظاهر على مضمونها؛ إنها تقدمُ وصفاً تختزلُ فيه صورة ذلك في وعيها بقولها في مقدمته: “أيها اليائسة/يا أمنا الصامتة إلى حين/اصغي لنا/نحن طوائف اللغة/ بينما نعبر بخطأً بطيئة لا تطارد أحد”، قبل أن تحسم موقفها في الحياة وما تختبره مع الأيام في وعيها الشعري والشخصي، المنسحب بثيمته على معظم قصائد الكتاب، واضعة هذا الوعي مرغمة بما يلف عوالمها، تحت ضغط ثقيل الوطأة في معناه ومُبتناه، بقولها أيضا في ختام المقدمة الرمزية: “كم هي عارية ظلالنا/ كم هو مقفر الطريق” متبوعا بإشارتي تعجب واستفهام، تُناقض في ما تُقدّمه من جمل وعبارات، تدل على عكس ما انتهت إليه، فمنذ طلبها أن “اصغي لنا”، بصيغة يرتديها الرجاء المكسور، تقرر أن الطريق مقفر، وأن الظلال عارية، أنه العبث الذي ينتحل عبثا، وكأن عنوان المجموعة “لست أنا هذا شبحي”، يقول للقارئ: انتبه إنك أمام موجة عالية من الكآبة، من الحدة، من الصراخ والصمت، من الجحيم وتواتر الفصول المضطربة، وكأنها تثنيه عن القراءة، فمن يكتب هو شبحها، وهذا الشبح ليس بصيغته المادية، بل المعنوية، هو انعكاس لحالات متقلبة تحياها بين مختلف المشاعر، تلك التي يطغى عليها الإحساس الشخصي جدا بتشظي الأنا وتبعثر دلالاتها، فما اختبرته سواء في الحياة، أو في الحلم، ترك بدواخلها ما ترك، من نشيج حاد وطويل أنينه، لم يجرحها لتكون ضحية، بل إنه يحرقها كنوع من أنواع التطهير النفسي، وذلك دون الابتعاد عن شاعرية الحالة برمتها، والدخول في اشتباك لغوي مع أداة أخرى غير الشعر، لكن ما تصيغه تلك الأداة هو في حالته قصيدة أيضا، غير أنها مكتوبة بالإزميل والحجارة، تقول في قصيدة “نحتُ يصيد دهشة الحجر”: “من نار القصيدة/ أشم خذلان الحديقة/ وهي في الشرك/ ترمق حجارة نطقت ملامحها، بأمزجة من نحتوا وصاغوا هذا المسام”.

ما من موضوع أو ناظم عام، يلم شمل قصائد “لست أنا هذا شبحي”، حتى العنوان، يذهب نحو هذه النظرة الكالحة التي تنظر من خلالها “شدود” للحياة برمتها، في زمن تحيا بين تقلباته الدراماتيكية، مفرداتها وجملها الشعرية،صورها الشديدة الرمزية وهواجسها الملتبسة، فـ “الأيام محنية من الخوف” هكذا يقول عنوان القصيدة الثانية في الديوان، ومنها: “في الأيام الطويلة/المحنية من الخوف/ المحنية على بعضها/ سأقود أنا والشعر فتنة بين الجبال/ في الدروب المنعرجة/سأنتبه من شهوة المدّ/من ريح ستسرف في نهبي/ من أقمار وأفضية لم تعد تتسع للغتي، بينما حوصلة الزمن تجرش عمرا، لم يكن ليناً معي”، إنها القسوة مرة ثانية وثالثة ورابعة، هي من تستفذ جوانيات الشاعرة، لتبدأ اشتغالاتها على فكرة برقت في الظلمة التي تلفها، فراحت تسقيها من حبرها، مُفرجة تارة عن تلك الدواخل بشعرية عالية، وأحيانا أخرى بتجرد كامل شعريته فيما تبطنه، تقول في قصيدة “تمارين”: بين ضيق وآخر/ يتكثف زادي من التعب، بينما تلفظ الروح ما نبقى من حلكة/ أتمرن على سماعك، وأنت تُحصي أسباب موتك المحتمل/ وعدد الأسوار المائلة في رأسك/ مع أني لا أصدقك/ وأنت تتسع وتضيق كنافذة”.

تحضر العاطفة المتقلبة كضيف طارئ في مختلف قصائد المجموعة، فيصبح الكلام تارة أداة غير كفؤ في نقل ما يحك دمها، على اعتبار أن ما تفكره فيه، لا تفيه الكتابة حقه، وتارة أخرى معنى مجرد بذاته، لا يخالطه في خاطرها أي شيء، ولا يرقى حتى عداه لذلك، تقول في “حصار لون”: “أفقدني تثاؤب القطة حماستي لصبح آخر مقهور/ الدوائر في الذاكرة تصفر/ أُفرغها في الهواء الساكن حولي/ وأمشي في أرض لا تعرفني/ الشوارع مبللة والوقت معلق/ لما رأيتك رسمت إشارات في الهواء/ لم تفهم/ فتحتُ بابا في فراغك ودخلت/ أنا والغابة التي تتبعني ليلا/ ولما انكمشتَ في خوفك مني/ مددت لك يدي البيضاء/فاحترقت بي، لست أنا/ هذا شبحي”.

المقطع السابق من القصيدة التي حمل الديوان اسمها، تمزج فيه الشاعرة بين وعيها المدرك، وذاك السابح في فضاءات تخيلية بعيدة وغائرة في الزمن، حدث عادي يحدث أمامها، ربما لن ينتبه له الكثير، لكنها ليست من أولئك “الكثير”، إنها في تماه تام مع ما حولها، وما في دواخلها، وما في واقعها وحياتها المُعاشة أيضا، هو نبعها الذي لا ينضب، وفكرتها الزمنية الأزلية، تقبض عليهما بأصابع من جمر.

“لست أنا هذا شبحي”، انفعالات حسية مدركة، وأخرى غير معروفة إلا كنقط بيضاء مُبهمة وبعيدة، تتكئ عليها “لينا شدود”، لتملأ أوانيها بالحزن والخذلان ومرارة الواقع على امرأة تستشعره بدمها أولا، وبدماء الأنثى التي تحمل حدسه في جيناتها الأنثوية البوحية تارة، والصارخة بكل ما فيها من ألم تارة أخرى.

تمّام علي بركات