ثقافةصحيفة البعث

الأغنية كالرصاص في المعركة

 

من يسمع أغنية “سورية يا حبيبتي” عندما تألق الثلاثي الجميل محمد سلمان ونجاح سلام ومحمد جمال في أجمل صورة للتآخي والحس الوطني العروبي في الأغنية، لا بد لذاكرته من أن تعود به لأجواء حرب تشرين التحريرية التي أصبحت علامة فارقة ملازمة لتلك المرحلة مع القدرة على النفاذ إلى مراحل مشابهة تستدعي الدعوة لرص الصفوف والوقوف جنباً إلى جنب في خندق الدفاع عن كيان الوطن وترابه ومكوناته الإنسانية والفكرية والطبيعية والإستراتيجية.

مكان آمن
في حرب تشرين التحريرية، دخلت الأغنية القلوب دون استئذان حاملة الفرح الحقيقي للناس فكانت كنوع من العزف المنفرد على وتر قلب الوطن، سلسلة طويلة تكاد لا تنتهي من الأغاني الوطنية التي عاشت في وجدان الشعب السوري لتكون سنداً معنوياً حقيقياً في الأزمات التي عصفت ومازالت تعصف بوطننا، ومحركاً عاطفياً فعالاً وداعماً لقوة الشعب في الدفاع عن وطنه والحفاظ على وحدته الجغرافية والإنسانية مع أثرها ودورها في تجسيد اللحمة الوطنية، فكانت تشكل مكاناً آمناً يلجأ إليه الجميع في الأوقات الحرجة، لأن كل من يؤمن بهذا الوطن سيلجأ إلى كلمة تعبر عن انتمائه وحبه وتماهيه مع ترابه، فهي تشكل قاسماً وجدانياً مشتركاً عند الجميع ومساحة لا يساوم عليها أحد على الإطلاق.

رسالة إلى القلب
لم تكن حرب تشرين التحريرية مجرّد صفحة وطويت من التاريخ السوري الحديث بل كانت زاداً لشعب آمن بالله وبالوطن، وكانت درساً في التلاحم بين أبناء الشعب الواحد على مختلف أطيافه،‏ وعند تهديد أمن الوطن واستقراره ماذا بوسع الشاعر والكاتب والملحن والمطرب أن يفعلوا سوى التقاط اللحظات الأكثر توهجاً في ضمير الأمة وترجمتها كلمة ولحناً وصوتاً، حيث يؤلف هؤلاء سيمفونية رائعة في حب الوطن تطير عبر الفضاءات دون إذن مرور أو جوازات، وتستمر في طيرانها رغم كثافة النيران ولا تمنع من الهبوط في أي مكان، وتبقى عبر الدهور والأزمان تؤرخ اللحظة التاريخية التي يمر بها الوطن وتبقى وصية يحفظها الأبناء ويرددها الأحفاد، فكانت الأغنية الوطنية في السبعينيات لها تأثير الرصاصة في المعركة، ولعبت دورها في تعزيز الوجدان الشعبي والإحساس بالتمازج مع الأرض، كما جسدت القيم والمعاني التي طالما تمسكنا بها على مر التاريخ، فالفن باختلاف أشكاله يؤلّف وحدة متكاملة لتكون رسالة تصل إلى القلب.

أغاني الحرب
لقد تزيّنت أيام زمان بأسماء الملحنين والمطربين ذوي الأصوات التي لا تنسى ولا تمحى من الذاكرة، وكلّ كان له بصمته فقد لمعت أسماء مهمة، إذ كان للملحن الراحل شاكر بريخان باع طويل في تلحين الأغنية الوطنية حيث كتب ولحن أغنية “نحن النسور” بعد حرب تشرين التحريرية الذي أصبح فيما بعد نشيداً للكلية الجوية، وغناها الفنان رفيق سبيعي بشخصية أبو صياح، وفي أنغام فيروز التي اعتدنا سماعها كان لأغنية “خطة قدمكم” الحافز الأقوى خلال عام 1973 حيث اعتمدتها الإذاعات لتكون مصدر قوة لأبطال الجيش العربي في حرب تشرين التحريرية، و”صباح الخير يا وطناً” أغنية وطنية شعبية كتبها الشاعر اليمني عباس الديلمي ولحنها الملحن سهيل عرفة، وأول من قام بغنائها المطربان السوريان أمل عرفة وفهد يكن كانت تذاع في الكثير من المناسبات الوطنية.

أغانٍ شعبية
كما انتشرت في فترة حرب تشرين التحريرية والمرحلة اللاحقة لها الكثير من الأغنيات الشعبية التي ما زال القسم الأكبر منها على ألسنة المتقدمين والمتوسطين بالعمر مثل “ادلّع يا صاروخ وعروستك فانتوم” وفانتوم هي نوع من الطائرات الصهيونية التي كانت تتهاوى أمام صواريخ (سام) السورية كتساقط الذباب في العيران كما يقولون، وأغنية “يا رامي ع الميم طه لا تخلّي طيار صهيوني جوّك يعلاه إلا يصفّي نار” والمقصود بالميم طه مضادات الطيران، أو أغنية “يا أرض بلادي الغنية.. بزنود السمر القوية.. وكرمالك يا أرض بلادي.. رح اتخصص مدفعية” وغير ذلك من الأغنيات الشعبية التي ما زالت حاضرة في الذاكرة حتى الآن.‏

تاريخ الأغنية
لقد كانت الأغنية الوطنية انعكاس حقيقي للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للجماهير الشعبية، وبالرجوع إلى تاريخ الأغنية الوطنية نرى أنها خرجت من مهدها على يد رائد الغناء وفنان الشعب سيد درويش الذي يعتبر بحق صانع ومفجر ثورة على المستوى الفني الغنائي والموسيقي فضلاً عن أنه صوت الشعب الهادر قبل وإبّان ثورة 1919 الوطنية، فهو الذي وضع نشيد “بلادي بلادي” الذي رددته الملايين العربية وما زالت من المحيط إلى الخليج، وأغنية “قوم يا مصري”، هذه الأغاني التي شحذت الشعب بالحماس ورفعت من روحه الوطنية وشهدت على حال الشعب وأفصحت عن قضاياه الحقيقية التي كانت تشغله ولاسيما التحرر من الاستعمار ونيل الاستقلال.
وبوفاة سيد درويش المبكرة خَبَا ضوء الأغنية الوطنية إلى أن توهج ثانية في فترة الخمسينات مع موجة المد الوطني التي اكتسحت الساحة العربية وإقامة الكيان المصطنع الصهيوني في قلب فلسطين، حيث هدرت الجماهير الشعبية معلنة رفضها ومحاربتها للمستعمرين وانتقادها للأوضاع الفاسدة في المجتمع، ولذلك اعتبرت الفترة الذهبية للغناء الوطني والمقاوم، حيث صدحت حناجر فنانين كبار مثل محمد عبد الوهاب في أغنية “أخي جاوز الظالمون المدى” وأم كلثوم “والله زمان يا سلاحي، أصبح عندي الآن بندقية” تلاهم عبد الحليم بصوته الشجي فغنى “خلّ السلاح صاح، الله أكبر فوق كيد المعتدي” فقد جاءت هذه الأغاني لتعلن كفاحاً مسلحاً ضد العدو الصهيوني.
ومع انطلاق المقاومة الوطنية الفلسطينية وأعمالها البطولية التي سطرت ملامح فداء، التفت الفنانون ثانية إلى هذا النمط من الأغاني وأبرز من غرد على الساحة الفنية جمعتهم ملحمة اسمها القدس، زهرة المدائن. ثم جاءت حرب تشرين التحريرية فكانت مصدر إلهام للفنانين فتغنوا بهذا النصر الكبير، حيث رددت الملايين مع شريفة فاضل أغنيتها “أنا أم البطل”.
جمان بركات