دراساتصحيفة البعث

حرب تشرين التحريرية.. قومية المعركة

 

قسم الدراسات

لاشك أن فترة الاستقلال هي التي صنعت تاريخ سورية بكل التفاصيل، بالأحداث العسكرية منها أو الأحداث السياسية وفي مقدمتها الوحدة مع مصر التي صنعتها القوات المسلحة بالدرجة الأولى، وهي التي خاضت أيضاً حرب تشرين التحريرية، وما زالت هذه القوات المسلحة تصنع تاريخ سورية. إضافة إلى ذلك، الشعب السوري هو الذي صنع حرب تشرين بصموده واحتضانه للقوات المسلحة. هذا الشعب عمره آلاف السنين ومرّت عليه كوارث طبيعية وحروب ومجازر وإبادات مختلفة، ومع ذلك بقي صامداً وقوياً، وبقيت سورية وخاصة دمشق وحلب موجودتين عبر التاريخ في الوقت الذي انهارت فيه واختفت عن الوجود حضارات ومدن أخرى وعواصم في المنطقة.
في حرب سنة 1967 بوغتت مصر وسورية والأردن بعدوان إسرائيلي استهدف تدمير القوات المسلحة للدول الثلاث واحتلال كامل فلسطين وسيناء والجولان. بعدها فوجئ الكيان الإسرائيلي بالقرار العربي في القمة العربية في الخرطوم في 29 آب 1967 القاضي بإزالة آثار العدوان. لذلك فإن حرب تشرين هي انتصار الإرادة والعقل العربي على الخوف والأوهام التي وُضعت في عقل المواطنين العرب في المرحلة التي تلت حرب 1967.
كان هدف الحرب هو تحرير الأرض المحتلة في عدوان حزيران من عام 1967، أي أن سورية أرادتها حرب تحرير رغم موقف الرئيس المصري أنور السادات في ذلك الوقت. وقد أطلق العديد من المؤرّخين العسكريين على حرب تشرين التحريرية سنة 1973 مصطلح “الحرب العربية الأولى” مقارنة بالحروب الثلاث التي سبقتها (حرب 1948، حرب 1956، حرب 1967)، والتي كان فيها الكيان الإسرائيلي هو المبادر، بينما كان العرب في حالة من ردّة الفعل ومجابهة العدوان.
تميّزت هذه الحرب بأحداث عسكرية فريدة معظمها حدث للمرة الأولى منها: تحقيق المفاجأة الإستراتيجية، وتحييد تأثير التفوق الجوي للكيان الإسرائيلي على الجبهتين السورية والمصرية عن طريق استخدام منظومات الدفاع الجوي الروسية الحديثة والمتكاملة، وصدّ الضربات المعاكسة الإسرائيلية بالدبابات عن طريق استخدام تشكيلات المشاة المسلحة بالصواريخ م/د، وعبور الجيش المصري لمانع مائي فريد من نوعه (قناة السويس)، وتحرير خطوط محصّنة في خط الدفاع الأول بأسلوب الإنزالات الجوية الرأسية (تحرير القوات السورية لجبل الشيخ وتل الفرس)، وتدخل الدول العظمى (الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة) في الصراع إلى درجة الإمداد المباشر بوسائط القتال (جسر بحري وجوي) وإعلان الاستنفار النووي (موقف الولايات المتحدة الأمريكية)، واتساع أبعاد الحرب إلى درجة مشاركة معظم الدول العربية بقوات رمزية، واستخدام الحرب الاقتصادية (سلاح البترول العربي وإغلاق مضيق باب المندب) كوسيلة ضغط لإنهاء الحرب بشروط محدّدة، وتحول الحرب في إحدى جبهاتها (الجبهة السورية) إلى حرب استنزاف استمرت حوالي خمسة أشهر اضطر بعدها الكيان الإسرائيلي إلى الانسحاب من الجيب المحتل ومدينة القنيطرة، وتوقف الحرب بقرار مجلس الأمن رقم 338.

التخطيط للحرب:
منذ مطلع شباط/1973 أمر حافظ الأسد القائد العام للجيش والقوات المسلحة، هيئة الأركان بإعداد الخطط اللازمة لتحرير الجولان، وفي نهاية هذا الشهر (25 شباط) ناقش الرئيسان الأسد والسادات في لقائهما في الإسكندرية فكرة الحرب المشتركة واتخذا القرار التاريخي بالتخطيط لتنفيذها في عام 1973 وشكّلا قيادة مصرية– سورية موحدة بإمرة الفريق الأول أحمد إسماعيل (من القوات المسلحة المصرية)، وباشرت أجهزة التخطيط العسكري للبلدين بإعداد الخطط وتنسيق الأعمال بسرية تامة، آخذة بعين الاعتبار جوانب القوة والضعف في البنية القتالية للجيشين السوري والمصري في مواجهة جيش الكيان الإسرائيلي. وكان من أهم القرارات العسكرية لهذه القيادة: شنّ حرب مشتركة على الجبهتين السورية والمصرية في آن واحد، والاعتماد على الاتحاد السوفييتي كدولة عظمى في تسليح الجيشين السوري والمصري لتحقيق التوازن مع جيش العدو الإسرائيلي والتفوق عليه في ميدان المعركة، ومواجهة تفوق سلاح الجو الإسرائيلي بمنظومة دفاع جوي روسية حديثة متكاملة تغطي الجزء الميداني من مسرح العمليات في كلتا الجبهتين على الأقل، ومواجهة تفوق سلاح المدرعات الإسرائيلي بسلاح مدرعات سوري– مصري مماثل، ومواجهة نظرية الحرب الإسرائيلية القائمة على توجيه الضربة المسبقة بخطة تضليل إستراتيجية وتحقيق المفاجأة الإستراتيجية على العدو.
حدّدت القيادتان السورية والمصرية هدف الحرب على كل جبهة انطلاقاً من نسب التوازن العسكري التي يمكن أن تحقّقها كلّ منهما أمام قوات العدو الإسرائيلي، والتي تشير إلى أن هذه النسبة تسمح لكل منهما بإحداث تفوق على العدو بنسبة تصل إلى 1/2 على الأقل لكلّ منهما، ومثل هذه النسبة تسمح للقوات السورية بتحرير هضبة الجولان المحتلة والانتقال للدفاع على مشارف نهر الأردن خلال يوم واحد، كما تسمح للقوات المصرية بعبور قناة السويس وتطوير الهجوم إلى المضائق في سيناء خلال عدة أيام بعد وقفة تعبوية. وقد توقعت القيادتان السورية والمصرية بأن القوات العربية التي ستشارك في الحرب على الجبهتين السورية والمصرية وفق قرار رؤساء الأركان العرب في 12كانون الأول عام 1972 سوف تصل إلى أرض المعركة في الأيام الأولى من بدء الحرب، الأمر الذي سيجعلها تشكّل نسقاً ثانياً أو احتياطيات إستراتيجية تستخدم لدعم هاتين الجبهتين مما يشكّل ضمانة أكيدة لنجاح الحرب.
وقد تمّ اختيار يوم 6 تشرين الأول1973 لبدء الحرب لتوفر عدة مزايا في هذا اليوم هي: يصادف يوم 6 تشرين يوم السبت وهو يوم عطلة لدى العدو الإسرائيلي، وعادة ما تكون الجاهزية القتالية الإسرائيلية منخفضة في هذا اليوم، ويصادف يوم السبت في 6 تشرين يوم “عيد الغفران” لدى الإسرائيليين حيث تكون نسبة إجازات العسكريين كبيرة، وفي هذا اليوم سيكون القمر بدراً مما يساعد على تنفيذ الأعمال القتالية ليلاً، وكذلك ملاءمة المدّ والجزر لعبور القوارب في قناة السويس، ووقوع هذا اليوم خلال شهر الصيام في رمضان (العاشر من رمضان) حيث لا يتوقع العدو لجوء القوات العربية للحرب.

العبر من هذه الحرب:
أكدت هذه الحرب من خلال التجربة العملية صحة النظرية التي استند إليها القائد حافظ الأسد في الإعداد للحرب وخوضها، وخاصة في الجوانب التالية: الحشد المسبق لطاقة الشعب البشرية والاقتصادية والمعنوية كون ساحة الحرب أصبحت تشمل كامل مساحة الوطن، كما أن خيار الحرب أصبح يتطلّب توازناً عسكرياً مع العدو في جميع جوانب القوة عدداً وعدة ومعنويات، وأن يُبنى هذا التوازن دفاعياً بالدرجة الأولى وهجومياً في الدرجة الثانية. كما أثبتت هذه الحرب صحة مبدأ “قومية المعركة” لأنه كما قال القائد حافظ الأسد: “ولأن الأرض المحتلة هي لأكثر من قطر عربي، يجب الاستفادة من الطاقات العربية العسكرية والاقتصادية والسياسية، ومن جغرافية المعركة المتمثّلة في الأراضي العربية المحيطة بإسرائيل”.
أثبتت هذه الحرب ضرورة بناء قوات مسلحة نظامية قادرة على خوض الحرب وتحقيق النصر بما يتطلّبه هذا البناء من نظرية قتالية، وروح معنوية، وبنية تنظيمية، وتسليح مناسب، وتأمينات قتالية، ومسرح عمليات محضّر مسبقاً.
لقد أظهرت هذه الحرب دلائل عملية على وحدة الأمة العربية في الإرادة والمشاعر والرغبات والآمال والأهداف، وعلى امتلاكها طاقة هائلة عسكرية وبشرية واقتصادية قادرة على تحقيق النصر إذا ما استُخدمت بشكل صحيح ، كما بدا شعار التضامن العربي وقومية المعركة شعاراً واقعياً من أجل التحرير الكامل للأرض وتحقيق الأمن القومي وبناء الوحدة.
لقد قُيّمت حرب تشرين على أنها تجربة ثمينة وغنية في تاريخ حركات التحرر، وفي هذا السياق تحمل أهميةً خاصة عملية الربط بين المعركة العسكرية والمعركة السياسية، تلك التي نبّه إليها السيد الرئيس حافظ الأسد بقوله: “لا يمكن بأي شكل أو بأي تحليل فصل معركتنا السياسية عن معركتنا العسكرية، لأن الأولى جاءت وليدة الثانية، وهي متلازمة معها ومعتمدة عليها، ولقد حقّقنا بصمودنا في المعركة العسكرية نتائج مجيدة حطّمت كل الأساطير التي نسجها العدو من حوله، ونحن قادرون أيضاً بالصمود والثقة بالنفس والتماسك القوي في الجبهة الداخلية، وبالتلاحم المتين مع أمتنا العربية، أن نحقّق النجاح في المعركة السياسية، ونجاحنا في هذه المعركة يكون إما ببلوغ الأهداف التي قاتلنا من أجلها، وإما بالقول لا بإباء وشمم إذا واجهنا تلاعباً أو مراوغة أو تهرباً من تطبيق قرار مجلس الأمن حسب ما فهمناه”.
كما أعادت حرب تشرين التحريرية للإنسان العربي وجهه الأصيل، وهذا الإنجاز الذي جسّدته حرب تشرين التحريرية المجيدة كان وحده هو الدافع لتعاظم معسكر الصمود والممانعة، وبروز قوى مقاومة وطنية تختلف كثيراً عن سابقتها في المضمون والشكل والجوهر كماردٍ في وجه الاحتلال الصهيوني في فلسطين والاحتلال الأمريكي في العراق والعدوان الإسرائيلي على لبنان وفلسطين أعوام 1978- 1982- 2006.
حرب تشرين التحريرية عبّرت بوضوح عن حقيقة المقاتل العربي، وكشفت عن شجاعته وتفانيه وبطولاته من أجل تحقيق تحرير الأراضي العربية المحتلة، كما كشفت عن أسلحة عديدة وفعّالة بيد العرب كسلاح النفط والأرصدة والعلاقات المتشابكة مع كثير من دول العالم. فسلاح النفط الذي استُخدم حينها كان له تأثير كبير في دفع شعوب دول تتحالف مع العدو الصهيوني وتقدّم له الدعم لمراجعة حساباتها والضغط على حكوماتها لتقديم مبادرات لحلّ الصراع العربي الصهيوني. كما أن استخدام الدول العربية لعلاقاتها الدولية أدى إلى قطع كثير من الدول لعلاقاتها بالكيان الإسرائيلي، وحتى اعتبار الصهيونية حركة عنصرية وُثّق بقرار من هيئة الأمم المتحدة.
وحرب تشرين التحريرية حطّمت ترهات وأباطيل وادّعاءات الكيان الفارغة ومنها: أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، والكيان الإسرائيلي الذي كان يحارب جيوشاً عربية عدة، كما حدث في حربي 1948 وعدوان حزيران 1967، بات بعد حرب تشرين التحريرية غير قادر على فتح أي جبهة مع دولة عربية، والإدارة الأمريكية التي كانت تتبجّح بقوة الكيان الإسرائيلي، وأنها عاجزة في الضغط عليه بذريعة أن العرب مهزومون والكيان الإسرائيلي هو المنتصر، باتت في ورطة وحرج وراحت ترمي بثقلها لدعم الكيان الصهيوني، ولذلك تورّطت في حماقات كلفتها هيبتها وشوّهت صورتها وأفقدتها مصداقيتها.
حرب تشرين التحريرية لن تكون آخر الحروب بين إسرائيل والعرب، وحتى التهديدات الإسرائيلية المتلاحقة من حكامها وجنرالاتها باتت محلّ أخذ وردّ، فقادة الكيان الإسرائيلي باتوا على قناعة بأنهم وإن كانوا يملكون قرار العدوان أو شنّ الحرب، إلا أن قرار حسم الحرب وإنهائها وحتى إيقافها ليس بأيديهم وحدهم وإنما بأيدي أطراف أخرى. ولذلك بدأ قادة الكيان الإسرائيلي يحسبون ألف حساب لأي عمل عدواني أو حرب جديدة، حتى معاهدات السلام التي وقّعت بين الكيان الإسرائيلي وبعض الدول العربية لم تحقّق ما كان مرجواً منها، بل إن المقاومة والممانعة للتطبيع تتصاعد في هذه الدول بحيث بات العدو الإسرائيلي وأنظمة هذه الدول في حرج، والكيان الإسرائيلي بات يعرف أن أية حرب حالية أو مستقبلية لن تكون في صالحه فالعدو بالنسبة له لم يعد جيوش هذه الدول، وإنما فصائل المقاومة التي تساند الجيوش الوطنية. وعلى هذا يمكن القول إن حرب تشرين التحريرية المجيدة بإنجازاتها وانتصاراتها الكبيرة، والنتائج الكارثية التي ألحقتها بالعدو الإسرائيلي، زرعت بذور الأمل أيضاً في نفوس الأمة العربية وباقي شعوب العالم بأن تحرير الأرض والمقدسات وإحقاق الحقوق المشروعة سيتحقق لا محالة عاجلاً أم آجلاً، وهذا ما أصبح الآن يؤتي ثماره، بحيث نرى أي عدوان يتحطّم على صخور المقاومة الوطنية وقوى الصمود والممانعة وعزيمة الشعوب الحرة الأبية.

خاتمة:
أشياء كثيرة تغيّرت خلال الـ/46/ عاماً الماضية، فقد كانت الدول العربية موحدة بكل قطاعاتها وكلّ جوانبها في وجه عدو واحد هو العدو الصهيوني. منذ /46/ عاماً كانت ممارسة الخيانة والعمالة مستترة، أما اليوم فقد أصبحت ظاهرة ومعلنة، كما أصبحت خياراً للأشخاص، وخياراً للحكومات، وخياراً للحكام العرب. لكن رغم ذلك ستبقى سورية كما كانت عبر تاريخها القديم والحديث قاطرة العمل العربي ضد الاستعمار، وما الحرب التي تخوضها الآن ضد الإرهاب ليست سوى التعبير الحقيقي عن محاولة الأعداء القضاء على هذه القاطرة القومية من خلال تجزئتها إلى دويلات أو فيدراليات متناحرة على أساس إثني وطائفي، إلا أن أمل شعبنا كبير بالخروج قريباً من هذه المحنة وترسيخ الوحدة الوطنية والتمسّك بالهوية السورية الجامعة وتحقيق النصر في هذه الحرب ضد الإرهاب.