تحقيقاتصحيفة البعث

حطمت تحصينات العدو الصهيوني وكسرت شوكته حرب تشرين التحريرية.. تغيير في موازين القوى وبداية زمن الانتصارات العربية

ليس من باب البحث الأكاديمي استذكار نتائج حرب تشرين التحريرية التي كان أهمها تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وامتلاك زمام المبادرة، والتأكيد على أن إرادة الشعوب لا يمكن أن تقهر أو تهزم مهما بلغت تضحياتهم الجسام، فحرب تشرين التحريرية أطلق عليها العديد من المؤرخين “الحرب العربية الأولى” مقارنة بالحروب الثلاث التي سبقتها: (حرب 1948، حرب 1956، حرب 1967) التي كانت إسرائيل فيها هي المبادرة، بينما كان العرب في حالة ردة الفعل ومجابهة العدوان، فمن أين اكتسبت تلك الحرب أهميتها؟ وما هو عنصر المفاجأة الذي تحقق فيها؟ وكيف تم تحقيق التكامل بين مختلف الصنوف والتشكيلات العسكرية؟ وكيف تم كسر أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر؟.

ذكريات لا تنسى
إن الرجالات الذين خاضوا حرب تشرين يملكون الكثير من الذكريات حول هذه الحرب المشرفة التي شكّلت بشهادة كل الخبراء والباحثين المفصل الرئيسي بين زمني الهزائم والانتصارات العربية، وتدل على ذلك الأهمية التي توليها الأكاديميات العسكرية لتلك الحرب، والنابعة من كونها الحرب الحديثة التي جرت خلال فترة الحرب الباردة، وعند دخول الثورة التقنية العسكرية مجال التطبيق العملي في مطلع السبعينيات.
يقول العميد المتقاعد تيسير حمزة: إن هذه الحرب تميزت بأحداث عسكرية فريدة، معظمها حدث للمرة الأولى، منها تحقيق المفاجأة الاستراتيجية التامة، وتحييد تأثير التفوق الجوي الإسرائيلي على الجبهتين السورية والمصرية عن طريق استخدام منظومات الدفاع الجوي الروسية الحديثة والمتكاملة، وكذلك صد الضربات المعاكسة الإسرائيلية المتفوقة بالدبابات عن طريق استخدام تشكيلات المشاة المسلحة بالصواريخ م/د، واحتلال خطوط محصنة في خط الدفاع الأول بأسلوب الإنزالات الجوية الرأسية كتحرير القوات السورية لجبل الشيخ، وتل الفرس، واتساع أبعاد الحرب إلى درجة مشاركة معظم الدول العربية بقوات رمزية، واستخدام الحرب الاقتصادية كوسيلة ضغط لإنهاء الحرب بشروط محددة، وتحول الحرب على الجبهة السورية إلى حرب استنزاف استمرت حوالي خمسة أشهر، اضطرت بعدها إسرائيل إلى الانسحاب من الجيب المحتل، ومدينة القنيطرة.

عنصر المفاجأة
وفي دراسة وثائقية أعدها العميد الركن الدكتور رزق الياس الذي ساهم في هذه الحرب كضابط أركان في إدارة الاستطلاع، أشار إلى أسباب اختيار يوم السادس من تشرين لخوض الحرب فقال: تم اختيار يوم 6 تشرين الأول /اكتوبر1973 لبدء الحرب لتوفر عدة مزايا في هذا اليوم: أولها أن يوم 6 تشرين يصادف يوم السبت وهو يوم عطلة لدى العدو الإسرائيلي، وعادة ما تكون الجاهزية القتالية الإسرائيلية منخفضة في هذا اليوم، وكذلك يصادف يوم السبت في 6 تشرين يوم عيد الغفران لدى الإسرائيليين، حيث تكون نسبة إجازات العسكريين كبيرة.
وفي هذا اليوم سيكون القمر بدراً، ما يساعد على تنفيذ الأعمال القتالية ليلاً، وكذلك ملاءمة المد والجزر لعبور القوارب في قناة السويس، ووقوع هذا اليوم خلال شهر الصيام في رمضان (العاشر من رمضان)، حيث لا يتوقع العدو لجوء القوات العربية للحرب.

شباب متحمّس
في الساعة 13.50 أعطيت الأوامر للطائرات القاذفة المقاتلة بالإقلاع من مطاراتها باتجاه المواقع الإسرائيلية المقرر قصفها في هضبة الجولان، كما أعطيت الأوامر إلى قادة التشكيلات وقطعات المدفعية ببدء التمهيد الناري على أغراض العدو المحددة في الجولان، وفي تلك اللحظة عبّرت صيحة “الله أكبر” التي أطلقتها حناجر القادة والجنود عن الشوق الشديد لبدء معركة التحرير والتصميم على تحقيق النصر، وفي الساعة 1400 من يوم 6/10 بدأت القوات التمهيد المدفعي للهجوم باشتراك 1152 مدفعاً وهاوناً.
العميد المتقاعد رياض عقل، اختصاص دفاع جوي، قال: كانت المنطقة الجنوبية السورية قبل حرب تشرين منطقة تدريب للطيران الصهيوني، وعندما بدأت التحضيرات للمعركة تمت إقامة تشكيلات جديدة، واتبع المقاتلون دورة على سلاح جديد/الفولكا/، وبيّن أن سلاح الدفاع الجوي عمل متكامل جماعي، وقد قامت الدفاعات الجوية بدور فعال، حيث لم نسمح للطيران المعادي باختراق الأجواء، وشكّلت قوة ردع منعت العدو من تحقيق أهدافه، مشيراً إلى أن الدفاع الجوي كان عنصر المفاجأة الأكبر للعدو، حيث كان له الدور الأبرز في تغيير سير المعركة من خلال إسقاط عشرات الطائرات المعادية.

تحرير المرصد
العميد المتقاعد نايف العاقل، الحاصل على وسام بطل الجمهورية، والذي كان له شرف رفع العلم السوري فوق مرصد جبل الشيخ، تحدث عن تلك الأيام الخالدة، وكيف تم الاستعداد للحرب، واستذكر لحظات المجد حين رفرف العلم العربي السوري فوق جبل الشيخ، يقول: إن مرصد جبل الشيخ حصن منيع مؤلف من ثلاث طبقات تحت الأرض، وطابق فوقها، يرتفع عن سطح البحر نحو 2600 متر، أنشأه الكيان الصهيوني بعد عدوان حزيران عام 1967 لمراقبة التحركات على طول الجبهة السورية من الشمال إلى الجنوب، وهو مجهز بأحدث أجهزة التنصت والتشويش، ومجهز هندسياً بحيث لا يتأثر بضربات الطيران والمدفعية من خلال الاسمنت المسلّح، والحجارة البازلتية الملفوفة بشبكة من الأسلاك المعدنية للحفاظ على تماسكها، وهو محاط بأسلاك شائكة مع ألغام مضادة للأفراد والدبابات، إضافة إلى محارس خارجية، وساحة صغيرة لهبوط الحوامات، وطريق معبّد يصل المرصد بالأراضي المحتلة، ومستودعات مجهزة بأبواب حديدية، ولا يمكن الدخول إلى المرصد إلا عبر منفذ واحد.
ويشرح العاقل عملية التحضير لتحرير المرصد، حيث تم التركيز على رفع اللياقة البدنية للمقاتل الذي كان يتدرب حاملاً أكثر من وحدة نارية، إضافة إلى الاستخدام الجيد للأرض، والتدرب على الرمي، وخاصة على الأسلحة المضادة للدبابات، وكذلك التركيز على رفع الروح المعنوية والقتالية لدى المقاتلين.
وأشار العاقل إلى أن البطولات الفردية التي شهدتها المعارك أثبتت شجاعة المقاتل السوري، وكفاءته، وقدراته الكبيرة على استخدام السلاح، وأكد أن إصرار المقاتلين على صد الهجوم، والتشبث بمواقعهم، ورفض التراجع، أدى إلى سقوط عدد من الشهداء الذين فضّلوا الشهادة على التراجع، وصنعوا من أجسادهم جسراً عبرت من خلاله الأجيال إلى بر العزة والكرامة، وأعاد التأكيد على أن المقاتل العربي في الجبهة السورية والمصرية استطاع تحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وبرز ذلك جلياً في المواجهات التي تقابل فيها مع العدو وجهاً لوجه، واستطاع التغلب عليه، وأظهر شجاعته وإيمانه بالأهداف، فكان الانتصار.

تدريب وتكتيك
كمال عربي، وهو طيار مشارك في الحرب، يقول: لتشرين ذكريات ذات قيمة عالية عند كل مقاتل شارك، حيث توجّهت كل الجهود للوطن، وترفّعت النفوس عن الذات، وتلاشت الأنانية، وتسامى الحب، مؤكداً أن هناك دروساً مستفادة لجميع من شارك في الحرب من حيث التدريب والتكتيك في حال تكرار هذه الحرب مع العدو، وحول مشاركته في الحرب بيّن العميد عربي أنه كان في أحد القواعد الأساسية التي تضم أكثر من 100 طائرة من مختلف الصنوف، وعندما أعطينا ساعة الصفر كان المكان يعج بالحركة، ونظرات الوداع، والصمت، ذهب الجميع إلى الطائرات، وبدأت عملية التجميع الجوي السوري، وكان لأول مرة ينفذ في تاريخ الأمة من حيث عدد الطائرات، والصفوف المتنوعة المشاركة، وبيّن عربي أن الطائرات ذهبت إلى تنفيذ المهام المحددة لها، وحققت أهدافها كاملة، رغم صعوبة المسرح القتالي، وعادت دون خسائر، باستثناء طائرة الشهيد ذياب الحريري، مشيراً إلى أن هذه الطلعات توالت على مدار سبعة أيام حتى توقف إطلاق النار على الجبهة المصرية، حيث حولت جهود طيران العدو باتجاه الجبهة السورية، إذ أصبحت المعارك أصعب وأشرس، وخاض المقاتلون معارك صعبة، وقد لاحظنا طائرات قادمة مختلفة عن طائرات العدو، لنعلم بعدها أنها طائرات من دول أخرى شاركت مباشرة بالحرب لمساندة العدو.
وبيّن عربي أنه كانت هناك أعمال بطولية نفذها الطيارون، وقصص كثيرة سطّرها أبطال سلاح الجو، كباقي قواتنا الباسلة، وتلك البطولات كان لها الأثر في نفوس المقاتلين، حيث شحذت الهمم، وارتفعت المعنويات، واللافت هنا أن طائرة ميغ 21 استخدمت بطريقة أذهلت الخبراء العسكريين، وحتى المصنعين لها، حيث كانت روعة في الأداء، مشيراً إلى أنه في تشرين انكسر حاجز الخوف والمواجهة مع العدو، وتبيّن أن عمليات التخطيط ودراسة واقع العدو أدت إلى نجاح في تشرين، إضافة إلى الخبرات المكتسبة التي كان لها الأثر في الانتصارات اللاحقة على العدو.

جسر البطولات
مازالت الأعمال البطولية التي نفذها مقاتلو حرب تشرين التحريرية مصدر عزة وفخار لأبناء الوطن الذين يبنون اليوم جسراً بين تلك البطولات وبطولاتهم وهم يسطّرون أروع الانتصارات على أعداء سورية عبر سحق الإرهابيين والمارقين والمرتزقة، فالأمة التي أنجبت أبطال ذي قار، والقادسية، وعين جالوت، وميسلون، والثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي، هي نفسها التي أنجبت أبطال تشرين، وأبطال الحرب على الإرهاب والإرهابيين التي يخوضها اليوم بعزيمة واقتدار جيشنا الباسل.‏

رفعت الديك