رأيصحيفة البعث

حصيلة رهانات وارتهانات

 

ما يمكن استخلاصه للوهلة الأولى، مع بدء العدوان التركي الإجرامي على الأراضي السورية، هو أن الأطراف الضامنة لمباحثات أستانا، ومعها مجلس الأمن، والأمم المتحدة، وجميع الأطراف المهتمة بالأمن والاستقرار في سورية والمنطقة، سوف تكون على موعد آخر، قد يكون الأخير هذه المرّة، مع سوء الفهم المتعمّد، والتفسيرات المغلوطة، والمماحكات اللفظية التي لا طائل منها، وحوار الطرشان المستمر إلى الأبد، مع طغمة أردوغانية حاكمة امتهنت لي عنق الحقائق وممارسة الأكاذيب العلنية ودأبت على الالتفاف والمناورة بطريقة خرقاء وفجّة لا تعرف الحياء الدبلوماسي، ولا علاقة لها البتة بأدنى درجات الخجل، وذلك في إطار الطبعة الأخيرة – أيضاً – من مفهوم “الحفاظ على الأمن القومي التركي”، وهو ما بات من العبث فيه التفريق بين المصالح العليا للدولة التركية الحديثة وبين التطلعات الإيديولوجية والتوسعية للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، بزعامة المدعو أردوغان: الإسلامي في المنطقة العربية، والشوفيني في آسيا الوسطى، والناتوي الأطلسي في أوروبا وأمريكا، ووريث الدونما في العلاقة مع “إسرائيل” داخل تركيا!.
سوء الفهم بدأ سريعاً هذه المرّة مع التمهيد للعدوان بقصف عشوائي ومكثّف على الصوامع والبنى التحتية ومحطات الكهرباء والمياه والسدود في ريفي الحسكة والرقة، بمعنى أن ما تطلق عليه القوات التركية عملية “نبع السلام” لن تعدو كونها نوعاً من سياسة الأرض المحروقة التي تستهدف القتل والترحيل الجماعي للسكان تحت يافطة مكافحة الإرهاب الدولي، مع التذكير بأن كل ما قام به أردوغان إنما يشكّل استمراراً للتكتيكات المتّبعة طوال سنوات حربه على سورية، وهي لا تتجاوز، حتى الآن، حدود ضرب مجموعات وميليشيات إرهابية “سورية” ببعضها البعض على مذبح الاستراتيجية الأردوغانية في الحرب بالوكالة. وللحقيقة، فإن هناك من منح الطاغية التركي – كما يبدو – ضوءاً أخضر وفرصة أخيرة للتخلّص من مشكلة “اللاجئين”، التي طالما كان – هو – من حرّض عليها، وكان المتسبب الأول بها، ليتبجّح – لاحقاً – بكرمه وسخائه في التعاطي معها، وليتاجر فيها – فيما بعد – ما شاءت له التجارة الرابحة!.
ولكن أحداً لن يستطيع الزعم، هذه المرة، أن تركيا ستحل مشاكلها الأمنية، التي هي أساساً مشاكل داخلية وليست حدودية، وأن الشروع باحتلال أراض سورية، أو استئجار مرتزقة للقيام بالمهمة بالنيابة، وحتى إشعار آخر – لن يكون ورطة محمّلة بعواقب وخيمة، بل ولا يمكن الخروج منها إلا بأثمان باهظة، أقله خلق واقع فوضوي وعشوائي على الأرض غير قابل للإخضاع أو السيطرة، وبحيث تجد القوات التركية نفسها، مرة أخرى، في “مهمة” مفتوحة على كافة الاحتمالات، وتتجاوز أهدافها المعلنة، ولا سقف زمنياً محدّداً لها، أي أنها ستقف في حالة أشبه بالشلل، وذلك دون التساؤل حول قدرة الجيش التركي والقيادة العسكرية والسياسية التركية على قيادة عدوان خارجي – وإلى النهاية – على سورية، وفي ظل حقيقة أن دخول الجيش العربي السوري، بتجربته وكفاءته القتالية المشهود له بهما، احتمال قائم، وهو مستعد لذلك في أي لحظة!.
تبدأ المغامرة العسكرية الأردوغانية الجديدة بدخول الأراضي السورية بقصف البنى التحتية، والبنى التحتية هذه – ذاتها – كانت الضحية الأولية للميليشيات الانفصالية التي سارعت إلى إشعال النار فيها لأغراض التمويه والتعمية القتالية. ولنا أن نتخيّل، هنا، أيضاً، حدود “المواجهة” المتوقّعة بين طرفين يدخلان الحرب على خلفية موافقة دولية مشروطة لكليهما، ولنا أن نتخيّل – بالمقابل – “لعبة” متوقّعة بين “خصمين” عنيدين ومشهورين بالتحجّر الإيديولوجي، ولكنهما غارقان في الانتهازية الفجّة والممارسة البراغماتية الرخيصة. إن التفكير الشيطاني لأردوغان يمكن أن يعود به إلى “داعش” مجدّداً، تماماً كما أن النزعة المغامراتية لدى حزب العمال الكردستاني يمكن أن ترجع به إلى عدمية التفجيرات الإرهابية؛ وللمفارقة، فإن الطرفين يحصدان اليوم حصيلة خطأ رهاناتهما وارتهاناتهما؛ وللمفارقة أيضاً، فإن هذه الرهانات والارتهانات كانت – ولاتزال – مشتركة حتى هذه اللحظة. ولن نبالغ أبداً إن قلنا: إن وجود الميليشيا الانفصالية، بقيادة إرهابيي العمال الكردستاني، في منطقة الجزيرة السورية، هو، بحد ذاته، شكل من أشكال الاحتلال، وأن تأكيد المواطنة السورية إنما يبدأ بترحيل العناصر الأجنبية التي استوطنت بقوة السلاح والإرهاب، واستغلت الظروف الأمنية لكي تصنع لها كيانية انفصالية..
بعدها فقط يمكن الحديث عن احتلال واحد وعدو مشترك!.
بسام هاشم