تحقيقاتصحيفة البعث

العزلة الاجتماعية.. تراجع في العلاقات المباشرة واندماج تام في العالم الافتراضي

 

أفضل بكثير من حديث الناس، وتعليقاتهم، وانتقاداتهم الساخرة على كل حدث وشأن وتفصيل من تفاصيل حياتها، تبرر السيدة الأربعينية أم غيث اختصار علاقاتها الاجتماعية، وقلة الزوار من جيرانها وأقاربها ممن باتت تتواصل معهم، وتؤكد أن النمط الجديد الذي تحولت إليه في عالم افتراضي هو الأكثر راحة للبال، تبدأ نهارها صباحاً بنشر صورة منظر طبيعي لطيفة مرفقة بعبارة: “صباحكم خير” على صفحتها الشخصية في موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، تحيي صديقاتها وجاراتها المتواجدات أيضاً على موقع التواصل الاجتماعي لتبدأ معهن “صبحية” الكترونية لم تألفها سابقاً حين كان فنجان القهوة حاضراً في لمة النسوان مع جاراتها ضمن جلسات واقعية، وشاهداً على صلات حقيقية بين الجيران لم تعد موجودة في مجتمعنا لاعتبارات عديدة ومختلفة، وليست تلك القصة الوحيدة التي تقدم مؤشراً عن صلات الناس والجيران المتجهة لشكل جديد، وحالة من العزلة الاجتماعية محكومة بظروف الواقع، وما طرأ على المجتمع السوري من تحولات عديدة كالسفر، والتنقل، ودخول التقنيات الحديثة، إضافة لظروف الحياة الصعبة، ويوميات الغلاء الفاحش، وانشغال الناس في تدبر أمورهم، ما قلل من هذه الصلات، لتغدو العزلة واقعاً.

لقاءات نادرة
تكثر الصور التي نصادفها في المجتمع التي تؤكد تراجع النشاط الاجتماعي، والصلات بين الناس بفعل عوامل عديدة، يتحدث لؤي، مثلاً، وهو شاب أربعيني، عن زيارة ينتظرها من بعض أصدقائه منذ أكثر من سنة لمنزله، لكنها لم تحدث حتى الآن نتيجة عوامل كثيرة أبرزها كما تحدث وجود منزله في قرية تقل المواصلات إليها، ويضيف: ما أبعد هذا الواقع الذي نعيشه اليوم عما عرفناه سابقاً من حياة اجتماعية، وتبادل للزيارات، والصلات بين الجار وجاره، وبين الصديق وأصدقائه، فكان الود، وكانت الحياة البسيطة البعيدة عن الازدحام، والتكلّف، والضغوط اليومية، أما علاء، وهو شاب عشريني، فيتحدث عن وقت مزدحم في يومياته، وضغط عمل لا وقت معه للقاءات أو تبادل الزيارات مع أصدقائه، ويقول إنه يستعيض عن هذا الأمر بالتواصل معهم الكترونياً عبر الوسائل المختلفة كمواقع التواصل الاجتماعي، وبرامج الدردشة الكثيرة التي أصبحت بمتناول الجميع على جوالاتهم.

أمثلة متناقضة
لا تقف العزلة الاجتماعية التي أصبحت واقعاً في المجتمع عند هذه الحالات فقط، فالأمثلة تتكرر أيضاً عن جيران لا يعرفون جيرانهم، ولا يتبادلون معهم تحية الصباح أو المساء عند اللقاء، وبحسب أبي ياسر، وهو رجل ساءه تصرف بعض جيرانه حين تتلاقى أعينهم في عينيه ولا يبادلونه سلاماً أو كلاماً، فيقول: مؤسف هذا الواقع الذي أصبحنا عليه حين تصبح وجيرانك كالغرباء، لكنه يستدرك مبرراً: مؤكد أن صعوبة المعيشة اليوم، والغلاء الفاحش، أهم الأسباب لما نحن فيه اليوم، في المقابل تبدو الأمثلة الأخرى التي مازالت تحاول جاهدة المحافظة على طابع الحياة البسيطة، والصلات القوية مع جيرانها، موجودة ولو بقلة، فيحرص أبو دريد، مثلاً، وهو أحد سكان مدينة طرطوس، على طقس أسبوعي على التوجه إلى القرية التي ينتمي إليها مع عائلته للاجتماع مع أقاربه وأصدقائه، ويقول ممازحاً: “أحسن دوا شم الهوا”، ويؤكد هذا الرجل: مهما تمدنت حياتنا وتعقدت، ومهما دخل عليها من تحولات، فالصلات الاجتماعية، وتبادل اللقاءات بين الأصدقاء أو العائلة، أمر لا غنى عنه في مجتمعنا الشرقي، والصلات الاجتماعية هي ما يحفظ تواجدنا كمجتمع، ولا يمكن على الإطلاق استبدالها بالواقع الافتراضي أو الالكتروني، والفيس بوك ليس إلا حالة هروب وعزلة مؤقتة لا تغني عن المجتمع الأصلي، وحاجتنا إليه في الكثير من الطقوس الاجتماعية الأخرى كالأفراح، والأحزان، وغيرها، فهي حالات تجتمع وتقوي الروابط، وتذكرنا بضرورة المحافظة عليها.

حماية من الموت
يعزو الباحث الاجتماعي الدكتور كنان الشيخ تراجع العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع السوري لعوامل وأسباب عديدة أبرزها دخول التكنولوجيا الحديثة، ومواقع التواصل الاجتماعي في حياة السوريين، وتحول معظمهم إلى أنماط جديدة من التفاعل، ما قلل بالضرورة الأشكال التقليدية المعروفة سابقاً للعلاقات الاجتماعية كتبادل الزيارات بين الأهل والأقارب والأصدقاء، ويكمل: من أهم الأسباب الإضافية أيضاً لتراجع تلك العلاقات الأزمة التي عانى منها السوريون في السنوات الماضية، وما أحدثته من نتائج كارثية على المستوى الاجتماعي بعد هجرة بعض السوريين واغترابهم، سواء في الداخل أو الخارج، ما أدى لخلق حالة من الانكفاء نحو العائلة، وعدم الثقة بالمحيط المجهول بالنسبة لبعض عناصر المجتمع حين تتغير بيئاتهم، وفي المقابل يستشهد الشيخ بدراسات علمية عديدة أجريت حديثاً تؤكد أن قضاء وقت سعيد مع الأهل والأصدقاء يقلل من خطر الموت المبكر بنسبة 50%، وبحسب هذه الدراسات فإن ضعف العلاقات الاجتماعية يوازي تدخين 15 سيجارة في اليوم، وتراجع الحياة الاجتماعية يعادل المعاناة من إدمان الخمر، وتأتي أهمية العلاقات الاجتماعية من أنها تزيد في صحة الإنسان أفضل من اللقاحات التي تمنع الإصابة بالمرض، ذلك أن الإنسان خلق كي يعيش مع غيره، وأن عزله عن الناس تسبب له بأمراض نفسية وصحية، لذلك يختم الشيخ بالتأكيد على ضرورة قضاء وقت مع العائلة والأصدقاء، والعمل على تشجيع الحياة الاجتماعية التي عرفناها سابقاً.

محمد محمود