دراساتصحيفة البعث

أمريكا تحارب ذاتها

سمر سامي السمارة
تزايدت حدّة الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية في الآونة الأخيرة، ما يشير إلى انقسام وتباعد في المواقف التي تهمّ الحزبين تجاه قضايا مهمّة، فالمشهد السياسي في الوقت الراهن يخيّم عليه استقطاب حاد لا مثيل له ، ما يؤكد سقوط المؤسسة السياسية في هاوية هي من تسبّبت فيها.
فمن جهة، يقوم الديمقراطيون ومؤيدوهم من وسائل الإعلام بالدفع لعزل ترامب باتهامه بأنه “غير وطني”، ويشكّل خطراً على الأمن القومي، ويردّ ترامب والجمهوريون على الديمقراطيين و”الدولة العميقة” بإدانتهم بتهمة التآمر للإطاحة بالرئاسة في انقلاب يكتسي ظاهرياً زي “العزل”. لكن ذلك لم يثنِ المشرّعين الديمقراطيين الذين يجرون تحقيقاً لعزل الرئيس ترامب عن إصدار مذكرة استدعاء للبيت الأبيض، كما حاول مجلس النواب الذي يسيطر عليه الديمقراطيون الوصول إلى النصوص الكاملة لمكالمات ترامب الهاتفية مع الزعماء الأجانب، وهو ما دفع وزير الخارجية مايك بومبيو لانتقاد أعضاء الكونغرس بشدة “للمضايقة المستمرة لوزارة الخارجية” في بحثهم عن أدلة لإدانة ترامب، الذي يُسمّي محاولة عزله بـ “مطاردة الساحرات”. في المقابل، يحتج النواب الجمهوريون لأن الولايات المتحدة تواجه أزمة دستورية خانقة، حيث يستغل الزعماء الديمقراطيون المعارضون مناصبهم لاتهام ترامب “بارتكاب جرائم خطيرة” دون تقديم دليل في مشهد أشبه ما يكون سيناريو “أليس في بلاد العجائب”، حيث تصدر الأحكام الخطيرة قبل تقديم الأدلة.
ترامب من جهته لم يقف مكتوف الأيدي، فقد قام بتوجيه اللوم للديموقراطي آدم شيف، رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب بسبب “الخيانة” وهي جريمة كبرى. والسؤال هنا: هل الشرطة الفيدرالية ملزمة بالقبض عليه، فهو متهم بالتواطؤ مع المبلّغ المفترض من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بتقديم شكوى حول محاولة ترامب ابتزاز الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بهدف تشويه صورة المرشح الرئاسي الديمقراطي جو بايدن؟.
في الحقيقة، لا يبدو أن هناك نهاية لهذه الحرب الأهلية السياسية في الولايات المتحدة، فالطبقة السياسية الأمريكية تمزق نفسها بنفسها بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وتدمّر قدرتها على القيام بأي دور. بدورها تساير وسائل الإعلام التي تدّعي الليبرالية –الديمقراطيين- بتوجيه الاتهامات لترامب لارتكابه تجاوزات، ويؤكدون بشدة أن التقارير الموثوقة حول استغلال جو بايدن لمنصبه كنائب لرئيس الولايات المتحدة لإيقاف تحقيق مع شركة الغاز الأوكرانية التي يعمل فيها ابنه –مغلوطة-، لكن كثيراً من الأميركيين لا يرون الأمر على هذا النحو، لأن بايدن بالنسبة إليهم متورط حتى رأسه في فساد سابق، ويرون أيضاً أن المؤسّسة تطبق معايير مزدوجة بشكل فاضح، حيث تحمي بايدن من التحقيق بينما تطارد ترامب في كل فرصة ممكنة، حتى عندما تكون الأدلة ضد ترامب قليلة.
ويرى البعض أن ما يتعرّض له ترامب هو نوبات الارتياب نفسها التي تعرضت لها روسيا من قبل واشنطن خلال السنوات الأخيرة، حيث يتمّ توجيه الاتهامات من دون دليل، وبذلك تصبح “حقيقة” من خلال التكرار اللا متناهي للادّعاءات التي لا أساس لها من الصحة، مثل روسيا التي يُزعم أنها تتدخل في الانتخابات الأمريكية، أو زعزعة استقرار أوكرانيا، وفرض مئات العقوبات الاقتصادية عليها نتيجة لذلك، ومن المفارقات أن ترامب قد دخل أيضاً في اللعبة نفسها.
وبغض النظر عن انهيار تقرير مولر الذي استمر عامين حول التواطؤ المزعوم بين ترامب وروسيا لعدم وجود أدلة، فإن الديمقراطيين ووسائل إعلامهم، فضلاً عن رعاة الدولة العميقة، يصرّون على اتهام ترامب بتجنيد سلطة أجنبية، أوكرانيا، لتعزيز فرصه الانتخابية.
حتى نصّ مكالمة ترامب الهاتفية مع زيلينسكي في تموز الماضي تظهر أنه لم يقدم طلباً يربط من خلاله المساعدات العسكرية الأمريكية بالتحقيق المطلوب في الفساد المزعوم من قبل نائب الرئيس السابق جو بايدن. ومع ذلك، فإن الديمقراطيين وحلفاءهم في المؤسسة السياسية لا يكلون من متابعة إقالة ترامب. استناداً إلى هذه الحجج الواهية، تبدو عملية الإقالة هذه بمثابة كناية عن “الانقلاب” لقلب نتيجة الانتخابات الرئاسية لعام 2016. في السابق فشلت كارثة “رشاغيت” المزعومة بسبب نقص الأدلة، والآن أصبحت “أوكرانياغيت” ذريعة لدفع محاولة الانقلاب.
وفي ظلّ حرية نشر المعلومات، كشفت مؤسسة “Judicial Watch” مؤخراً عن دليل قاطع بأن التحقيق الذي أجراه مولر كان محاولة انقلاب للإطاحة بترامب، إذ تُظهر المراسلات المفتوحة بين وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووسائل الإعلام الليبرالية دافعاً واضحاً وتنسيقاً متعمداً للإطاحة بترامب رغم عدم وجود دليل على ارتكاب مخالفات.
وهنا تتعرّض “الديمقراطية” والدستور الأمريكيان للقمع من قبل قوى غامضة غير منتخبة، بمساعدة وتحفيز من قبل وسائل الإعلام المرموقة مثل نيويورك تايمز، وكأنّ هذه القوى تفترض أنها تعرف بشكل أفضل أو لديها امتياز أكثر من الأميركيين الذين “صوتوا بطريقة خاطئة”!.
النتيجة الحتمية ببساطة هي أن القوى السياسية داخل الولايات المتحدة لا تعترف بالحقوق الديمقراطية للناخبين الذين صوّتوا لوصول رئيس إلى منصبه، ولا تحترم أيضاً الإجراءات القانونية الواجبة. هذه إيديولوجية كامنة للديكتاتورية والفاشية، بتعبير أدق تنطبق على السياسيين ووسائل الإعلام الذين يدّعون أنهم “ليبراليون” و”ديمقراطيون”.
لذلك يساهم الانهيار السياسي المتسارع في الولايات المتحدة في فضح كذبة التصريحات الأمريكية المتكرّرة حول كون الولايات المتحدة نموذجاً للفضيلة الديمقراطية “المقدسة” وسيادة القانون. والأشخاص الذين يلحقون الضرر بالسياسة الأمريكية ودستورها هم أمريكيون “وطنيون” وليست روسيا أو أي خصم أجنبي متخيّل. أليست هذه عدالة خيالية بعد عقود من الكراهية والخداع والغرور الأمريكي “الاستثنائي” الذي أعلن عن نفسه؟.
أمريكا في حالة حرب مع نفسها، فالأمريكيون أنفسهم هم الذين يدمّرون نظامهم السياسي، بل ربما المجتمع ذاته، بأيديهم وعقولهم المضلّلة المصابة بجنون العظمة دون أية مساعدة من “عدو أجنبي”!.